ذكرى انتقال سيدنا الأحسن البعقيلي رضي الله عنه وأرضاه

يوم الثلاثاء التاسع من شوال 1427 الموافق ليوم 31 أكتوبر 2006

كلمة سيدي محمد الكبير رضي الله عنه لتقديم سيدي الحبيب بن حامد رضي الله عنه

 في افتتاحية هذا اللقاء العالم الجليل والمقدم النبيه من الأيالة التونسية خليفة الفقيه العارف والعالم الجليل السيد محمد القماري رحمه الله وهو يشاركنا ويشاطرنا بكلمة منه نيابة عن فقراء بتونس وزاوية الفقراء بتونس التي عاش فيها سي محمد القماري رحمه الله وتربى على يده جيل عرمرم في الأيالة التونسية وبقي على وفاءه وصدقه ومحبته وإخلاصه لوالدنا وإنصات لوالدنا إلى أن وافاه الأجل رحمه الله. السيد الحبيب بن حامد وهو خليفته ومقدم الطريقة هناك ومقدمنا أيضا في الأيالة التونسية يريد أن يشارككم أفراحنا وأفراحكم في هذه الذكرى المباركة لتكون إن شاء الله عيدا …..

 كلمة سيدي الحبيب بن حامد في ذكرى انتقال سيدنا الأحسن البعقيلي رضي الله عنه وأرضاه

بسم الله الرحمان الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الابرار وصحابته الأخيار

 الحمد لله الذي أهّلني ووفّقني للوقوف بين أيديكم والنظر إليكم نظرة عالية بالله وألهمني نيّة صالحة حتى رأيت الكلّ بعين التعظيم والمحبّة والكمال فبرزت لي في قلبي دقائق أنوار ومحاسن أسرار توجّهكم الصّافي إلى الله تعالى فلاِزلت ألهج بذكركم وأثني عليكم ما لمسته لديكم من قوة في الدين ويقين وتجريد مما سوى الله واستغناء به جل وعلى عن كل ما سواه وإتقان للعبودية جزاكم الله عنا أعظم الجزاء.

 وما قدمت من تونس لأعظم أحدا فالله هو الذي عظم شيخنا ومولانا أحمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه والله هو الذي عظم تلميذه الوفي الأطهر سيدي ومولاي الأحسن البعقيلي والله هو الذي وضع سره في المربي الكامل والقدوة النفاع سيدي وقدوتي الحاج محمد الكبير أطال الله عمره مع الصحة والعافية.

 فالله أحمد على معرفتكم حمدا كثيرا. ولولا فضل الله ما اجتمعت بكم ومن جملة فضل الله علينا أن بعث لنا بالعارف القطب الرباني سيدي ومولى نعمتي الحاج محمد بن ابراهيم البعقيلي المكنى القماري هذا السيد الجليل هو الذي بعثه لنا الحاج الأحسن إلى تونس مند عام 1929 م فاستقر بها إلى أن توفته المنية في عام 2002 على سن تناهز ال104 سنوات رضي الله عنه وأرضاه. وبواسطة سيدنا محمد القماري انتشرت الطريقة التجانية بتونس ولو أنها وجدت قبله لكنها كانت أشرفت على الإضمحلال وتعرف الناس على سيدنا الأحسن وعلى كتاباته وعلى منهجه في التربية وعلى خصائصه كعارف وعالم وقطب مربي.

 ومن خلال القطب القماري ذاقوا معنى العبودية كما يحبها الله ورسوله إذ أن القماري كان عين البعقيلي وكان القماري “هو الإراءة تمشي على رجليها” هذا ما يصفه به من عرفه وتلمذ له. “هو الإراءة” وهو “الأحسن البعقيلي” بذاته كما قاله له مرارا حفيد الشيخ رضي الله عنه سيدي علال ابن امحمد التجاني المدفون بتونس وكان مجازا من طرف الفقيه البعقيلي يقول له : “اذا اتيتك فكأني أتيت الفقيه لا فرق”.

وكتب له سيدي الأحسن في بعض رسائله : “فنحن اخوة ذات واحدة” كما قال له أيضا “فأنت ولد الروح” وقال له مشافهة ” أنا أبوك ” فالرجل عندنا واحد “الولد نسخة أبيه” ووقع النفع العميم وفتح الله أبواب الدين وتعلم الناس الفقه اتقانا والمعرفة عيانا وفتح الله الأبصار والبصائر من رجال ونساء وأطفال وعجائز يرون ما لا يرى غيرهم ممن حجب بنفسه وينطقون بالحكمة والمعرفة ويتولهون بذكر شيخهم وقدوتهم البعقيلي كأنهم عاشوا معه السنون الطوال.

 ففيهم من قارب حفظ الإراءة وسوق الأسرار والشرب الصافي لشدة تعلقه وفيهم من يحكي لك على أحوال الفقيه في درب غلف والشوية وجبال بعقيلية وقبائلهم. ومن يتكلم لك على خصائل العارف أحمد والعارف الأساكي والعارف الجكاني والعارف الفطواكي وغيرهم من أصحاب الفقيه وأصهاره كالقائد ونسائه كللا الزهرة وأولاده كسيدنا الخليفة الحاج محمد الحبيب رضي الله عنه وأرضاه الخ…

وهذا كله يكمن في شيء ما : ما الذي جعل هذا المشرب ينتشر بهذه الصفة وما الذي جعل هؤلاء الناس ينتفعون هكذا وما الذي جعل الإراءة وسوق الأسرار محل نظرهم؟

ما الذي جعل تربية الشيخ الأحسن رضي الله عنه تتناقلها الأجيال من بعده ويسري علمه ومعرفته في الفقراء كسريان الدم في العروق خاصة تلاميذه وخاصة تلميذه الأبر الشيخ محمد القماري رضي الله عنه وأرضاه؟

 الأمر بسيط جدا وهو يكمن في أمرين اثنين :

 -فأما من ربح على يديه ربحا تاما فإنما هو بتقصير الهمة وأصله شرط منع الزيارة وهو معروف في طريقتنا.

-والثاني هو نزع الأغراض في عبادة الله، وهو الطريق إلى الله.

الأمر كله يتعلق بالطريق إلى الله و بتقصير الهمة على الشيخ.

1-     الطريق إلى الله ونزع الأغراض

فأما الطريق إلى الله ونزع الأغراض فقد جعله رضي اله عنه كالاسم الأعظم الظاهر في كل كتبه وبين فيها الفرق بين الطريقتين طريق القوم الثانية وطريق الله الأولى وهي طريقة الصحابة. ولا تسمى الطريقة التجانية بالصوفية بل هي الأصلية. قال رضي الله عنه “لا يوصل الحق الا بأربعة حقوق : الشريعة – والعمل بها –ورسول الله صلى الله عليه وسلم – ثم نزع الأغراض”.

فالأحسن لم يترك مجالا إلى طريقتين ظاهرة وأخرى باطنة بل جمع الكل في شيء واحد وهو الطريق إلى الله وهو واحد وهو شرع كله وهو محبة الله ورسوله كله وهو نزع الأغراض كله. فهذا العالم رضي الله عنه آتى بالفقه في العبادات على المذاهب الأربعة متعرضا لقوله تعالى ” إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم…” كما تعلمونه في كتاب التفسير ( مقاصد الأسرار ).

وهذا العالم هو المؤلف لكتاب الزلا الأصفى واللباب المحض الأوفى وهو العالم المؤلف لكتاب الإراءة وهو قاموس الطريقة والطرق كلها بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم وهو المؤلف للشرب الصافي حاشية على جواهر المعاني وهو المؤلف لإيضاح الادلة بأنوار الأيمة. فالعلم عنده باب واحد وهو الطريق إلى الله لا غيره ولا يعرف رضي الله تعالى عنه غير الله “فلا أدلك الا على ربك” ولا يسمح لمن تعلق به أن يغفل عن الله نفسا واحدا وكلما رآه المشائخ قبله صعبا بعيد المنال عسيرالادارك الا ورآه هو من أسهل ما يكون فقربه لنا وأفصح عنه بعبارة سهلة وأرانا مرآه فقال “فمن لم يتعلم علمناه ومن لم يذق ذوقناه”.

وكلما آومئ له المشائخ العظام جعله محطنا الأصلي ومدارنا فقال ” فنحن نحوم حول الذات عشقا وهياما”. نرى الله في كل مفعول قبله ومعه وبعده. وكل ما دعى بالخير إلا قال مثلا ‘ فالله يوصلك إلى منتهى العارفين وذروة المقربين” لا نعول إلا على الله “ميلا وشوقا واعتمادا” الخ.

 الطريق إلى الله هو طريق اللا أنا وطريق اللا غرض فمن عبد الجنة كان عبدا لها ومن عبد خوفا من النار كان عبدا لها ومن عبد الدنيا كان عبدا لها ومن عبد الآخرة كان عبدا لها الخ. ومن عبد الله كان عبدا لله. “إن أود الأوداء الذين يعبدون الله لغير نوال” طريق الله هو غير متعدد وهو طريق واحد فكل ما علمه الحاج الأحسن وعلّمه من علوم فهي أصل الدين الإسلامي ” أن اعبدوا الله ” وكل علمه علم باطن لا يفهمه الا من ألقى القياد إليه وعظمه وكان من أهل اللا نفس بل من أهل الذوق السليم فعندها كلما قرأ حرفا مما دوّنه البعقيلي وأعاد القراءة ثانية الا ووجد نفسه يقرأ من جديد ويدرك معاني لم يدركها أولا و هذا هو سر العلوم النبوية والفتوحات الربانية ولكنك في كل الأحوال تعرف الله فيه وتعرف رسوله صلى الله عليه وسلم. وهو رضي الله عنه يكتب الله فيه ويقصده عز وجل في كل حرف وتفسير وكل من تأمل علمه وعلومه رضي الله عنه الا ووجد نفسه في دائرة المعرفة الإلهية العظمى وكل عارف بالله يعرف أن هذه العلوم هي علوم محمدية ولا يمكن ان تكون الا كذلك ومن لم يفهم هذا فإنه لن يفهم شيئا في الأصل…

 وهنا نعرج على من لم يفهم البعقيلي قبل الكلام على تقصير الهمة فنقول فمن أراد أن يخضع كلام البعقيلي تحت ضوابط عدة وينزله إلى من لم يترق إليه مرقاه فهو ” ينفخ في غير ضرم” وكل من أراد أن ينصره بتأويل كلامه على وفق ما يريد أن يفهمه من لم يسلم له فهو أخطأ عين الصواب ولم يعرف البعقيلي ولا فهمه. وهو سوء أدب كبير ينشأ عنه تعسف وتعدي حدوده على المؤلف. فلا يحب المؤلف ان تظهر بعض كلامه وتستر البعض الآخر.

“فما مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما ولا ذمه فإذا اعجبه اكل منه والا تركه لمن يعجبه ” وهذا ما صرح به البعقيلي إذ قال فانا اعجمي اعترفت بلكنة وامر ان يترك كلامه على ما هو عليه لعله يكون له سر وليس هذا بكتاب عربية إنما هو علم الا ذواق والمعارف الالاهية وكل من أراد اظهار بعض علمه وإخفاء البعض الآخر لم يصب الصواب فكل ما نشر ودون هو علم ليس بسر والمطر لا يترك لأنه يذهب ببيت العجوز والشمس لا تخفى لأنها تظر بالأرمد.

فما ألفه المؤلف هو مسؤول عنه مأذون فيه فمن صدقه ربح ومن لم يصدقه مع الاحترام لا شيء عليه ومن أنكر عليه تضرر.

 قال رضي الله عنه : الإراءة ج2 ص 261

…ما كتبت هذا الا لنفسي ولأولادي ومن تنزل منزلة نفسي وأولادي في الضعف والمحبة فإنني أعجمي خلقة… فإن وجدت تصحيفا أو لحنا عربيا فأصلحه بالطرة مع ترك لفظنا على حالته فإنه خرج عن حال عجمي فربما يكون له سر رباني فإن من غير حروف اهل الأحوال العجمية ربما يخاف عليه من ربه لأنه تنزل واعترف بلكنة وجهل. فانظر بعين محبة فإنه عليه تجده عسلا شفاء وان نظرته بسخط تجده حنظلا منك لا منه… وأخلص النية فيه فإنه يضمن لك فتحا ربانيا وعلى الله التكان…

فالطريقة معنى واحد لا خلاف فيها ولا ينقد بعضهم على بعض… فسلم تسلم ما ذم رسول الله طعاما ولا مدحه فإن أعجبه أكله وإلا تركه لمن يحبه… وكل الطعام شفاء ودواء… وكتابنا هذا نفيس في بابه لمن وافقه فمن لم يوافقه تركه بأدب… وإنما وضعته للصديقين الذين يحبون الجواهر العلمية والذوقية والذين يصلحون بواطنهم وأما اصلاح الألسنة فمحله علم العربية ولسنا بصدده أسلم تسلم… وارفض روائح النفوس مع كتب ألفت بالله لا بالنفوس واستجد نفائس النيات وأفاضل الأوقات لمطالعة كتب اسهرت فيها جفون المحبوين المقربين فإنهم ترياق….

 2-     وأما تقصير الهمة : فجعله رضي الله عنه من أعظم أمور الربح. قال رضي الله عنه وأرضاه (الشرب الصافي ج1 ص181) فأقول إني أشهد الله وملائكته وكل مؤمن بأني بايعت هذا الشيخ رضي الله عنه مبايعة تامة مطلقة شاملة عامة مستغرقة أنفاس الدنيا وأنفاس الآخرة على أن تكون ذاتي وصفاتي وحركاتي وسكناتي في محبته وطاعته ومتابعة طريقته حذو نعل بنعل تصريحا وتلويحا فهو ابي وأمي وأصلي وفرعي وسندي وعمدتي وحجتي وظاهري وباطني وإني ألقيت له القياد والعصى وحبست عليه عمري وعقلي وروحي وفكري فلا أفكر في غيره ولا أستمد قطرة من غيره فهو روحي وأصل سعادتي وإني أخذت عنه به لوجه ربي فالله يكرمني بقبوله وهمته وإغارته وعلمه آمين. فنطلب من الله أن يدخل كل من انتسب لي في سلكه من الأزواج والأولاد والأحباب فالله يقبلنا في حضرته ثم أعلم أن المعبود هو الله فالشيخ يدل عليه فاسترحنا مما اتعبنا قبل الدخول في سلكه…

 هذا هو الشيخ البعقيلي مع شيخه التجاني رضي الله عنه وأرضاه وكذلك وجهته واحدة مع قدوته سيدنا ومولانا الحاج الحسين اليفرني رضي الله عنه. قال فيه ” قال لي مولانا الشيخ هذا استاذك فقصر عليه همتك فاقتصرت على سنده لقول اشيخ رضي الله عنه… وهنا وقفة تأمل…

 هذا الكلام، الحاج الأحسن لم يعظم فيه ذات الشيخ التجاني أبدا بل عظم الله فيه وكل عارف يقرأ الله فيه ويراه ويسمعه أي أنها كلمة تتجلى فيها المعرفة الالاهية والحقيقة المحمدية في ذات الشيخ سيدنا أحمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه وهو ولي الأولياء وقطب الأقطاب وهو المدد المحمدي والسند الرباني. وأبناءه هم أبناء رسول الله صلى االله عليه وسلم كما أن فقراءه هم فقراءه وتلاميذه هم تلاميذه وكل من بايعه إنما بايع النبي صلى الله عليه وسلم وكل من وضع يده في يد الشيخ إنما وضع يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل الحضرة المحمدية وهي حضرة اللا أنا واللا غرض وهي الحضرة الالاهية.

وكل من سلم للشيخ فإنما هو يسلم أمره لله ويتوكل عليه كما قال في آخر كلمته ” أعلم أن المعبود هو الله فالشيخ يدل عليه”. ولا يكون المسلم مسلما إذا لم يسلم أمره لله ومن سلم أمره لله سلم من شر النفس والغرض وأصبح مسلما سالما ومن لم يسلم أمره لله كان عبدا للنفس والغرض وإن كان ساجدا راكعا ذاكرا لله بالليل والنهار ومن سلم أمره لله سلك طريق الحق والهداية وهو طريق الله وهو الطريقة التجانية الأحمدية المحمدية ومن لم تكن له واسطة وشيخ مربي عارف بالله من أهل الطريقة يتبعه ومن لم يبايع الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه ولم يتبع سنده ولم يشرب من مشربه الصافي لم يعرف الله حق معرفته وكل ولي من انبعاث سيدنا آدم عليه السلام إلى يوم الدين هو يستمد من القطب المكتوم والبرزخ المختوم سيدنا ومولانا أحمد التجاني ولا يكون القطب قطبا إلا بإذنه رضي الله عنه وهذا ما كوشف به وعرفه وعلمه وتحققه الشيخ البعقيلي فسلم أمره لله واتبع الطريقة التجانية المحمدية وسلك طريق الصحابة والأولياء لأنها الطريق إلى الله ومن دخلها واتبع الشيخ لله قضى الأمرين وحفظ الثقلين وحفظ من الثقلين.

-فأما الأمرين اللذان قظاهما فهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهما الغاية والمراد لكل مسلم

-وحقظ الثقلين : وهما كتاب الله وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تظلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي”

-وحفظ من الثقلين : وهما عالم الإنس والجان فمن كان من الطريقة التجانية حفظه الله تعالى ببركة الشيخ رضي الله عنه ولا يقدر عليه إنس ولا جان إلا بإذن الله وحتى إن ابتلاه الله فإنه محفوظ بحول الله وربح في الدارين ربح الراحة والطمأنينة في الدنيا لأنه عرف طريق الحق ولذا قال فاسترحنا مما اتعبنا قبل الدخول في سلكه وضمن لقاء وجه ربه في الآخرة لأنه يعد من السابقين الذين بشرهم الله.

في قوله تعالى : بسم الله الرحمان الرحيم

والسابقون السابقون أولئك المقربون” صدق الله العظيم

 فالفقير التجاني لا يسعى إلا للقاء وجه ربه الأعلى وتستوي الأمور عنده وتكون الوجهة واحدة وهي الطريق إلى الله والابتعاد مما سواه ومن لم يكن له شيخ عارف بالله قائم على تربيته لن يفهم هذا أبدا. والأصل في هذا أنه لن يعرف أحد الله بدون واسطة لأن الوسائط هم الذين يعرفون الله ويعرفون به فالأنبياء والرسل وسائط والكتب السماوية كذلك والصالحين والعارفين بالله وسائط وكل ما يدل على الله فهو واسطة بين الخالق والمخلوق ككل ما خلق الله فإنها تدل على الله وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه العزيز والصحابة رضي الله عنهم خير واسطة بعثت بعدهم هو الشيخ التجاني رضي الله عنه وسنده من أقطاب الطريقة التجانية وعارفيها رضي الله عنهم جميعا وعن أهل الله أينما كانوا.

 هذا بعجالة ما جاء في كلمة البعقيلي على شيخه التجاني من الأبعاد. وهذه الأبعاد نفسها هي التي شربها شيخنا القماري رضي الله عنه وأرضاه واتقنها اتقانا كبيرا وكان متياقظا في عدم نسيانها حتى ظهرت في سلوكه وتربيته وتجسدت في مواقفه. فأقول بأن الخصوصية فيه أنه كان رضي الله عنه شديد التمسك بأقوال شيخه البعقيلي وأقوال شيخنا مولانا أحمد التجاني رضي الله عنه وأرضاه.

 أخذ شيخنا القماري كلام شيخه البعقيلي مأخذ الجد بل وجميع حركاته وسكناته مأخذ الجد. ولم يشك أبدا في أي نفس من أنفاس شيخه فكل ما خرج منه الا وتلقفه بلهفة وقبول وتصديق فلا تسمع منه إلى آخر حياته إلا قال لي الفقيه نهانا الفقيه، أمرنا.. وهذا التصديق هو ما كان من مقام سيدنا أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. “ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره”. وما وقر في صدره هو معرفة الله وهو التصديق.

 ولذا كان القماري من خيرة تلاميذ البعقيلي وكل شيء كان يقول امشي لسي القماري وقال له “نحن اخوة ذات واحدة” ومدحه فقال “ولقد نزلت فلا تظن غيره مني بمنزله المحب المكرم” وقال له فأنت نور أبصارنا وأنت ولد الروح الخ وهذا المدح هو مغاير لمدح آخر يجري في رسائله لكنه قصد به تعظيم المتلقي حتى يسلم له ويربح منه وهو صحيح لكن مدحه للقماري إنما فيه أعلام بمقامه عنده وبما يؤول إليه أمره من بعده.

 هذه الخصوصية العظمى هي التي ربح بها من ربح وهي كمال التوجه إلى القدوة فكان شيخنا القماري رضي الله عنه كل ما قاله له البعقيلي إلا وجعله دينه عمره كله وما دعى له به قطع بأنه واقع حاصل لا محالة فيه وما كتبه في كتبه جعله واتخذه حقا حرفا بحرف معنى بمعنى حتى صارت المعاني تتلاطم عليه من كلام الفقيه كالأمواج المتتالية حتى غرق في ذوق بحور شيخه بصفاء محبة وتوجه مما لا مطمع فيه إلا لمن ماثله في التوجه والصدق. فإن اعتقدت أنه قطب فرد جامع خليفة عن الله وعن رسوله رضي الله عنه مجددا للدين فكيف لا تأخذ بأقواله جميعها جملة وتفصيلا. فإن لم يعجبك قول واحد فهي كزازة في شيخك.

 “ولا تقدمن عليه قبل اعتقادك أنه مرب ولا أولى بها منه في العصر… فإن رقيب الالتفات لغيره يقول لمحبوب السراية لا تسري”.

 فمن لم يقصر همته على قدوة تشتت قلبه بين أقوال العلماء والعارفين ولا يربح غالبا وأمضى عمره في الظن لا في العلم. فيضيع وقته في البحث والتدقيق والتحقيق بينما جمع له شيخه كل ذلك جمعا متقنا فعوض اتباع شيخه واتقان عبادة ربه يبقى يبحث ويبحث فيكون غالبا خامل الذوق نازل المرتبة إلى حد المراقبة. فلو توجه إلى شيخه وقدوته بهمة قاطعة وأخذ كلامه وتصريحاته وتلويحاته مأخذ التصديق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لحمله شيخه من ساعته إلى مقام المعاينة. وهذا ما صرح به القماري قال ” فكل من كلمته الا واتبعني ببركاته واتعرض إليه وإن كان عالما لأنه يبرز لي من الحقائق في كل كلمة ما لا يعد ولا يحصى من الحقائق….”

 هذا سببه أن بعض الفقراء قال له سيدي الأحسن بدل لينا الفقيه ما نحبوش سي قمار فقال لهم سبحان الله : لا تجدون مثله ولو ذهبتم إلى فاس وقال له سيدي محمد بغيت تبقى معانا أو تذهب إلى زوية كذا فقال له أنا لا أعرف إلا ما بغيته انت فضمه إليه ثلاثا قائلا الله يرضى عليك يا ولدي ثلاثا ففي تلك الليلة أحس بقلبه يدور مثل الرحى ثم فتح له في كل شيء…

 ومما سنه رضي الله عنه قراءة الإراءة وسوق الأسرار والشرب الصافي والجواهر والحديث سردا بعد الوضيفة مباشرة كل يوم وكان في أول أمره يفسرها عندما كان الفقراء قلال أما بعد ما كثروا فإن همته النافذه بالله كانت تسرى سريان الماء في الشجرة. فتفعل بالله في قلوب الفقراء من الفهم الغزير الواضح والذوق الجلي الصافي الصادق العجب العجاب. فما يخرجون من الزاوية إلا وكأنهم يمشون بين سماء وأرض. وكذلك أنه كان لا يترك حضور الوضيفةجماعة أبدا عملا بقول شيخه الذي جعل الجماعة صلاة ووضيفة شرط من شروط صحة الدخول في الطريقة .

هذا إخواني بعجالة بعض كلمات عن ساداتنا رضي الله عنهم وأرضاهم وإنما تكلمت مع أنني لست  من أهل العلم فما تكلمت إلا بلسان المحبة التي لا أدعيها ولكن ما أفاضه الله على قطبنا البعقيلي بوساطة مولانا وشيخنا أحمد التجاني يلين الحديد وينطق الجماد ويصير اللصوص من أجلّ العارفين بالله تعالى.

 كما قال رضي الله عنه ” فمنذ انقاد الى القطب التجاني بكليته حمله من ساعته إلى مقام المعاينة ” ولله الحمد على أن سمعنا بهم وأخذنا عنهم وجعل الله محبتهم في قلوبنا فسلمنا لهم لوجه الله ولوجه نبيه صلى الله عليه وسلم فصار تسليمنا لهم تسليما للشيخ فمن انقاد للقطب البعقيلي بكليته حمله من ساعته إلى مقام القربة والمعرفة التامة فيقول له ها أنت وشيخك. فيأمره الشيخ بمزيد البرور به حيا وميتا الخ أنظر الإراءة..

 نسأل من الله تعالى أن يسبل علينا ستره الجميل ويحفظنا في ديننا ودنيانا ويقبل علينا بمحض فضله ورضاه ويثبتنا ويستر أحوالنا وعيوبنا ويجعلنا من عباده المقربين آمين. ويجازي عنا جميع أحفاد القطب المكتوم رضي الله عنهم وأرضاهم وأن يجازي عنا أولاد وأحفاد عالمنا ومربينا البعقيلي ويجازي جميع أصحابه بما هو أهله وأخص بالذكر أستاذنا وقدوتنا سيدنا محمد الكبير جازاه الله كل خير فسبحان من سخره لنا مرشدا ومربيا شيخا واصلا وأخا ناصحا مع كونه مهيم في ذات الله هيمانا تاما مع الصحو والبقاء اللهم بارك لنا في عمره وارزق الجميع الصحة والعافية، اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ونعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ونجنا من الشر كله عاجله وآجله.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

 كتبه الحاج الحبيب بن حامد التونسي لطف الله به في الدارين آمين

في 8 شوال 1427