تعريف موجز بشخصية العارف بالله مولاي احمد ابن محمد التيجاني رضي الله عنه

العلامة سيدي محمد الكبير ابو عقيل

الحمد لله المصطفي من خلقه من يشاء لإبلاغ رسالة نبيه استرسالا في سير طريق الهداية و منهج الخيرية لامة رسوله المجتبى من خيار من خيار، للجلوس و التربع على كرسي سيادة مملوكيته، القائم بأمره، العامل لله لإيصال مراد الله فيهم، إلى خلقه، تأكيدا على متانة دينه المحفوظ، المحروس بالمطهرين من ملائكته البررة الكرام من خلقه.

شاء الله أن ينزل كتابه و ان ينشر دينه الحنيف فاجتبى من خلقه رسلا مبشرين و منذرين وورث سر النبوة و نور التبليغ و الهداية من بعد رسله مبشرين و منذرين وورث سر النبوة و نور التبليغ و الهداية من بعد رسله للعلماء بالله لحمل ما برز و بان و استنار من حكمه و شرعه، المبلغ و التبليغ (العلماء ورثة الأنبياء) و هم أولياء الله المبشرون بكونهم الطائفة القائمة على الحق الذي لا يضرها من خالفها أو ناوئها و جاهدها، فبالله نهضوا و به قاموا و اجتهدوا فلم يثنيهم شيء عما هيئهم الله له و جذبهم لأجلهم فكانوا نعم الحملة لكتابه المبين المبشرون بشريعة رسوله الأمين، الصادقون الراسخون رسوخ قمم الشوامخ، الأعلون المحافظون على سر السر الصادعون بالحق المقتدى بهم في القول و الفعل و الحال، اخلصوا لله فأفاض مولاهم عليهم من سره المصون و العلم المكنون ما تنورت له قلوبهم، و خشعت له الجوارح، و سمت به الأرواح، فصفوا بالله فنالوا منه التقريب و الترفيع و انافة المنزلة في حضرة كنته، ما أشرق الكون به كون القلوب المهدية بالله فانتشر ضيائه في كل الأفاق، فأحبتهم الأنفس و الأرواح فدانت لهم مملكة الحق بالانصياع و الإتباع فعلا بهم لواء الإسلام و ازدادوا علوا و خفقانا هم أحباب الله و أصفياؤه و إضنائه و أهله في عالم الملك و الملكوت.

 على عبادة الواحد الأحد عبادة مخلصة و لا ملتبسة، أرسل الرسل ليعلنوا للناس حقيقة التوحيد و يجرد الخلق مما سواه (اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا) فكلما مضت فترة إلا و تبعتها فترة أخرى للدعوة إلى الله بإمالة القلوب إلى محبته و العمل بما بين في الكتب المنزلة، فكلما طالت الفترات و انتكست الأنفس و تغيرت الأحوال يظهر الله فيها ممن حبسوا أنفسهم في الصوامع و ترهبوا في الأديرة يتفردون بأنفسهم يتحنثون بما بقي ممن لم يندرس من الكتب مائلين إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، حتى لم يبق من الدين إلا رسمه و لا من الشريعة إلا اسمها، صدات القلوب فبعدت عن الدعوة الحق، و الملة السمحة، بعث الله بعد فترة طويلة جاءت بعد بعث نبي الله عيسى على نبينا و عليه أفضل الصلاة و ازكي السلام، رسول الرحمة و منقذ الدين و مربي الخلائق أجمعين، خاتم الرسالات و النبوات شفيعنا و سيدنا و مولانا محمد صلى الله عليه و سلم، بعثه رسولا مبشرا و منذرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا، و متمما للأخلاق الكريمة ممن لم يندثر تماما من أصول الدين و صفاء التوحيد نسخت شريعته الشرائع السابقة التي مال بها حاملوها بعد الأنبياء عن النهج الصحيح بالتغيير و التبديل و التحريف، فصار الدين المضمن في الكتاب العزيز و المبين بالسنة النبوية دينا قويما صافيا سهلا ميسرا اجتمعت بنعمة الله عليه قلوب المؤمنين و انشرحت له الصدور، فعبد الله بكلمة لا الاه إلا الله لا معبود بحق و لا مستحق للعبادة إلا الله، تحررت النفوس من ربقة الأغيار فعرفت ربها بتجليه بأسمائه و صفاته، علمت أنه الإله المعبود المستحق أن يتوجه إليه بالخضوع و التذلل و أن يقصد في المهمات فكان عصر النبوة عصر صفاء العبادة لله وحده دون سواه، وامحاض العبادة له دون غيره، اطمأنت الأنفس و استقرت الأحوال و حين قبضت روح رسول الله و انتقلت الخلافة لخلفائه من بعده، بقي الحال كما كان، دين يسر و عمل يسير و ثواب من الله جزيل.

و لما اتسعت رقعة الإسلام و دخل في الدين الجم الكثير من الأقوام التي كانت على دين غير الإسلام و امتزجت الحضارات المختلفة و تنوعت مصادرها و أصولها، و تباينت العقليات، تشعبت الآراء باختلاف المشارب و المدارس العقلية و الفلسفية التي أنتجت فكرا يأخذ من عمق الفلسفات المختلفة باختلاف الأجناس و الثقافات و المظان و المسلمات، تباينت الآراء فصار الناس يأخذون بالرأي في تدبير المنقول و المسموع، فكان لزاما في مثل هذه المتغيرات المستجدة البعيدة في فهومها و أصولها عما كان عليه عصر الصحابة الكرام و التابعين بإحسان فيما ورثوه عن السلف من يسر المعتقد و بساطة فهم الإحكام و تفرعات النوازل باختلاف ظروف البلدان و الأمصار، قيض للأمة من صفوة علمائها من يرومون بما أوتوا من حكمة و فهم رشيد في الدين، دعوة الخلق للرجوع إلى ما مضى من عصر كانت عقيدة المؤمن نابعة من إيمانه الذي لا يقبل الانشطار، الإيمان الراسخ في القلوب، الصافي المشرب، الخالص لرب العالمين، بلا تعقيد أو فهم زائد عن المسلمات الشرعية، و الأحكام المبسطة المفهومة بنور العقل المنقدح في الصدور الوارد من مورد الأمر و النهي.

فظهر العلماء بالله يوجهون العقول إلى الوجهة المخلصة الصادقة بتجريد القلوب مما سوى الله و إشعار المؤمنين أن حكم الله واحد يسري على جميع خلقه، و انه لا عسرى و لا حرج في الدين فجمعوا القلوب عليه و انتشلوا من هداه الله من وهدة الشكوك و الريب لكن باختلاف فهوم الدالين على الله بحسب الزمان و المكان و العادات و السلوكات الشخصية و الاجتماعية، فاختلف المقصد و اتحد المبدأ.

و في هذه الضروف و في القرن الذي يلي القرن الثالث للهجرة بدأت ملامح هذه الفئة الداعية إلى الله بالرجوع إلى الأمن في العقيدة و السلامة في مباشرة الأحكام الشرعية من مفروض و مسنون، بدأت تظهر خائضة معركة ضد الرعونة في النفوس فبرز من سمو بالصوفية، تقعد علم التصوف فصار لكل أسلوبه و طريقته في التعبير عما يقصد به إخراج الخلق من فتنة النفس أولا و إغراء الشهوات و مضلات الأهواء.

و مما ذكر أحوال بإذن الله و حسن توفيقه إعطاء نبذة مبسترة جدا بقدر ما يسمح به المقام و يستوعبه المقال، عن حقيقة التصوف و تميز المتصوف لنستخلص من الكل ما نحوم به حول الشخصية الفذة التي هي موضوع اللقاء الرباني، المميز بمن حضروه أو شرفوه من المؤمنين و المؤمنات و خصوصا أهل الدائرة الفضلية المنتمين إليها منهاجا و طريقة أو المنتسبين محبة و تعلقا لما لشخصية المحتفى بذكراه من تأثير و اثر في ترسيخ عقيدة الإسلام الطاهرة السمحة على مدى عصره و العصور التالية له و إفشاء روح المحبة و الإخوة في الله و السلام و الطمأنينة في النفوس الهلعة المضطربة بالرضا بقضائه.

عبارة التصوف مشتقة من تصوف الرجل فهو صوفي من قوم صوفية، فربما كان الأصل فيه هو لبس الصوف، و أثاره على غيره لإظهار الحالة النفسية للابس، فانه في داخله زاهد في الدنيا، مائل عن زخارفها و زينتها و بهجتها مقبل بقلبه على الله غير عابئ بما تميل إليه النفس بحسب ما جبل فيها من طبع منجذب إلى لوازم النفس المتمكنة فيها من قوة الطبع و الطبيعة من حب ما زين من الشهوات و الملذات، قانعا بحاله، عازفا عن مرادها حتى لا تشغله بما تهوى و تعشق، عن العكوف بباب الرب الكريم، فإيثاره لبس الصوف لأنه لباس الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، و في الحديث: قال صلى الله عليه و سلم “مر بالصخرة الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت الحرام” و إذا كان هذا التعريف يوافق الاشتقاق من حيث اللغة، فان التوغل فيه بمحاذاة هذا المعنى خروج عن المبتغى و المراد، فيفهم إذا أن التصوف صار علما يراد به تصفية النفوس و تزكيتها حتى تخشع في عبادتها لخالقها بتوجيه الهمة كلها إلى إخلاص العبودية و التعلق بإحكام الربوبية، و عرفه الإمام الشعراني بقوله “التصوف علم أنقدح من قلوب الأولياء حتى استنارت للعمل بالكتاب و السنة”،فالتصوف هو العمل بالكتاب و السنة، و أقوال و أفعال و تقريرات و أحوال الرسول صلى الله عليه و سلم.

و قال إمام الطريقة و سيد الصوفية في زمانه أبو القاسم الجنيد ابن محمد رحمه الله “علمنا هذا مشيد بالكتاب و السنة” إذا فهو ليس لبس مرقعات و لا الزهد فيما لا يملك، و إنما تصفية البواطن و تطهير السرائر من كل ما يعيق استنارة القلوب و تحليتها بمكارم الصفات بعد تخليها عن مذمومات الأخلاق الحاجبة للعبد عن حضرة القدس مما يطلق عليه الشرك الخفي.

و انشد من قال:

              ليس التصوف لبس الصوف ترقعه      ولا بكاءك ان غنى المغنونــــــــا

              ولا صياح و لا رقص ولا طـــــــرب      ولا تغاش كان قد صرت مجنونا

              بل التصوف ان تصفو بلا كــــــدر         وتتبع الحق و القران و الدينــــــا

             وان ترى خاشعـــــــا لله مكتئبــا         على ذنوبك طول الدهر محزونا

من اثر هذا العلم الذي ظهر مع نهاية القرن الثاني للهجرة ووسط القرن الثالث أن ظهرت المشايخ متلونة بتلون أحوال الناس و عاداتهم و ثقافتهم، همهم إخراج الناس مما ساد بعد ما عمت الأهواء، و غلبت الدنيا الفانية بمظهرها و زينتها على عقول الناس، و استولى حب الميل إليها على القلوب، فابتلي أهل كل عصر بالفتن الملهية عن الله بسبب ظهور الدجاجلة بسطوتهم و قوتهم الخارقة، فانصاع الناس لهم بما تعلموه باستخدام الطلاسم و سر الأسماء و تسخير الأرواح فاختلطت العقيدة الصحيحة بكدورات العقول المريضة بحب الرياسة و الجاه و طلب الدنيا من غير وجه، فكان لزاما أن يوجد في كل عصر من يرفع رأسه فوق ركام الأهواء المضلة و المبعدة عن الطريق السديد و المنهج اللا ئح القويم ليصدع بالحق و يقول للناس: ارجعوا إلى ربكم و اركنوا إليه وحده واتبعوا سنة رسولكم، و انهجوا نهج العصر الأول تفلحوا بنعمة الله و فضله، و لا تتبعوا الأهواء الصارفة عن الحق الموقعة في الهلاك المتبعة لطريق من اخرج أبويكم من الجنة ليريهما سوءاتهما.

فانقسم المشايخ المربون كل بحسب فهمه في تربية خلق الله لجدبهم إلى حضرتهم بتحرير القلوب مما سوى الله، فزينوا للناس فضائل الدين و ما ينشأ عنها من قربى محسنين لهم نتائج الأعمال من أجور و ثواب عند الله فقصدهم تزيين الإقبال على الله بما اعد لأهله من ثواب و حور و جنة و نعيم فانحاش الناس إليهم ليرشدوهم و يهدوهم لكن بملاحظة الأغراض في عبادة ربهم و غرضهم هو دفعهم إلى الإقبال على عبادة ربهم أولا، حتى إذا ما تمكنوا و ألفوا و فهموا بعد أن الله لا يعبد إلا لذاته و ابتغاء مرضاته، و أن الأغراض ليس إلا وسيلة للعكوف على عبادة ربهم و ميلهم إليها و تركهم ما ألفوه من التهافت على الدنيا و تركهم شكر خالقها و مزينها، و بهذا الاعتبار تم لهم المراد فتجرد البعض من الأهواء و الغراض فاخلص العبادة لرب العباد المعرضين عن الحظوظ النفسية و الأغراض القلبية “إلا لله الدين الخالص” فحصل الفرح بالله و نشطت المشايخ في الدعوة إلى الله كل بما أوتي من فهم و ذوق.

و إلى حدود القرن الحادي عشرة و المشايخ يحثون الناس بإحسان الوجهة إلى الله، إلا أن الأغراض الخفية الكامنة في النفس صعب تجاوزها و اقتلاعها بالمرة و في بداية هذا القرن ظهر مجدد الدين و محيي سنة سيد المرسلين قطب الأقطاب العارف الكامل سيدنا و مولانا احمد بن محمد التيجاني رضي الله عنه و أرضاه.

 و فيما يلي التعريف بنبذة يسيرة عن حياة المحتفى به:

شخصية مولانا احمد التيجاني و أثرها البالغ في تغيير كثير من المفاهيم السائدة في وقته و بعد وفاته

الحديث عن شخصية مثل شخصية العارف بربه، الكامل الواصل مولانا احمد التجاني لسبر غورها، و استكناه حقيقتها صعب في الكل فلا تدرك لكونها شخصية رجل خلق و وجد ملفوفا بالنور الرباني و مكلوءا بالعناية الربانية للقيام بعمل من أسمى الأعمال و اجلها إلا و هو الدلالة على الله لإنهاض الهمم الفاترة و إحياء القلوب النافرة لتركن إلى شرع ربها و تتخلق بمكارم و أخلاق رسولها.

فمن كانت هذه بدايته فكيف بمن قصر عنها أن يستقصي ما جبلت عليه هذه الشخصية الفذة من سر مكنون و علم مكتوم و معارف مقذوفة في القلب بقوة المشيئة الإلهية القاهرة، إلا انه مما أبرزه أهل التحقيق في كتبهم من مقاربة سيرته و تلمسها لبعض ما ظهر من أحواله نحاول و بالله التوفيق أن نعرض لما ظهر منها و ما يشهد عليه الفعل و الأثر المتروك و من ثم يجمل بنا لا متطاولين على هذا الجناب العالي أن نستشف بعض ملامح هذه الشخصية من خلال ما نقل عن الأكابر ممن عاصروه أو عاصروا من عاصروه، فنتعرض لشخصيته من خلال حياته التي عاشها منذ ولادته إلى مماته، ثم النفحات الربانية التي لا زالت تسري بعد حياته الدنيوية،

ولد رضي الله عنه سنة 1150هـ بقرية عين ماضي، و نشأ في ظل أسرة جل أفرادها علماء عاملون، و أولياء كاملون، و عرفاء نابهون. أبوه قال عنه مؤلف جواهر المعاني العارف بربه خليفة سيدنا الشيخ في حياته و بعد مماته سيدنا علي حرازم رضي الله عنه قال: الشيخ الكامل كهف الإسلام و ملاذ الأنام العالم الشهير الدال على الله و الجامع عليه و الداعي بحاله و مقاله، أبو عبد الله سيدنا محمد بالفتح بن المختار. و كان عالما ورعا متبعا للسنة …..

وقال عن أمه: هي السيدة الفاضلة الزكية الكاملة الطيبة المطهرة… إلى أن قال هي الحرة النفيسة السيدة عائشة بنت السيد الأثيل الولي الجليل ذو البركة و الأنوار اسكنه الله مع الأبرار ووالى عليه المنة و الرضوان أبو عبد الله سيدي محمد بالرفع ابن السنوسي التجاني المضاوي، توفيت رحمها الله مع زوجها في يوم واحد بالطاعون.

في كنف هذه الأسرة الطيبة نشا رضي الله عنه و تربى على حب العلم و العمل حفظ القران و هو ابن سبع سنين عن ظهر قلب شرع في تحصيل فنون العلوم المعروفة فبرز فيها بإظهار نبوغه و قوة إدراكه حتى برز أقرانه و بهر أساتذته بسرعة بديهية و تلمح فهم ما اعتاص من مسائله، فأفتى من استفتاه و درس لأقرانه ما فتح الله به عليه منها، و لجديته و انكبابه على التحصيل لشد ما تفتقت قريحته و علا شأنه، و عرف بميزة الإدراك و التحصيل.

كانت هذه المرحلة من صباه إلى بلوغه السنة الواحدة و العشرون من حياته، حياة التزود و الارتواء من علوم المنقول و المعقول، و إتقان الفهوم في مسائل التوحيد و أحكام الشريعة الغراء لان تصفية العقيدة و التخلق بالشريعة فهما و ممارسة مما تنعكس أثاره على البواطن فتتنور بنور الله بإشراق نور الهداية و لوامع التوفيق.

تميز رضي الله عنه بعد إتقانه العلوم النقلية المعهودة، و إطلاعه على كتب القوم بشفوف رتبته و انشغال قلبه بما تفتح له سره من علم الباطن، فاشتاق إلى ملاقاة أولياء الله المتفردين بهذا العلم الوهبي.

تحركت همته العليا مختارا الصعب و مستصغرا المشاق في سبيل إدراك ما وافق طبعه باقتفاء أثار طرق الصوفية لما يجده في نفسه من رغبة ملحة تدفعه إلى التقيد بعهود المشايخ الكاملين لتحلية البواطن فسافر في هذا السن إلى فاس من عين ماضي بلده لتحقيق مرغوبه و الحصول على مطلوبه، لملاقاة أهل التحقيق في مسائل علوم البواطن على عادة السالكين لحضرة الله، و ذلك بحمل النفس على المجاهدة و المصابرة لتدرك ما تعلقت به الهمة، و التحقق بالفائدة المرجوة من بلوغ غاية الكمال من وصفوا بالصوفية و المشايخ همهم الدلالة على الواحد الأحد و مغالبة النفس و الهوى و سوق النفس بالتربية و الرياضة إلى ربها مذعنة خاشعة ذليلة معترفة بعجزها و مقرة بفقرها و أن لا عز لها إلا بإعزاز جلال حضرة الربوبية و معانقة صفاء العقيدة بإحسان الوجهة إلى المعبود و دحض الهوى. فالبدايات الحسنة علامة على حسن النهايات و هو قولهم من كانت بدايته أحكم كانت نهايته أتم.

فبروز الشخصية و ظهور ملامحها المنبئة عن كمالها و استقامتها هي اللبنة الأولى في حياة الفرد أي التوجه السليم في بداية الأمر و الارتقاء فيه مع قوة الجسم و اكتمال العقل و تنور السرائر و النهضة القامعة لخمول النفس.

و إذا كانت النفوس كبارا……..تعبت في مرادها الأجسام

ففي فاس تلاقى مع صلحائها و افدادها مما قصده لغايته مثل القطب العارف الكامل الشيخ أبو محمد مولانا الطيب بن القطب سيدي محمد بن القطب مولانا عبد الله الشريف و كذا القطب الشهير مولانا احمد الصقلي قدس الله سره و غيرهما ممن عرفوا بالولاية و انافة الرتبة و غزارة المعرفة المربون الكاملون مثل العارف سيدي محمد بن الحسن الذي ما ا ن رآه قبل أن يكلمه قال له: أي لشيخنا لا بد أن تدرك مقام القطب الكبير مولانا أبي الحسن، يعني الشاذلي رضي الله عنه.

اخذ مولانا الشيخ عن مولانا الطيب ورده و أجازه في التلقين لمن طلبه فامتنع الشيخ عن إسعافه لما يجده في نفسه من حاجة التفرغ لما هو مقدم عليه نظرا لعلو همته و لما يحس به بأنه لم يتحقق بمقام المشيخة بعد.

رجع رضي الله عنه إلى الصحراء مسقط رأسه و مأوى إبائه عملا بنصيحة ابن الحسن الوانجلي قاصدا بلد التي يوجد فيها زاوية الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد المعروف بسيدي الشيخ، فأوى إليها و جعل منها منزلا و متعبدا منقطعا فيها للعبادة، عاملا لإفادة المريدين و الطلاب مما اكتسبه من علم و ما ورثه من فهم في الدين.

بقي خمس سنوات و أثناء مكثه و خلال المدة زار بلدة عين ماضي، ثم ارتحل إلى مدينة الجدار التي اختارها منزلا و مقرا مشتغلا فيها كذلك بالتدريس و العكوف على عبادة ربه زاهدا في ما أيدي الناس.

توالت عليه في أثناء مقامه لوائح الفتوحات الربانية بظهور الخوارق على يديه مما انكشف به حاله و عرف به ما أهله الله بسابق إنعامه و توالي أفضاله، و الله فضله عظيم على أوليائه و أصفيائه من خلاص عباده، جعلنا منهم بفضله و جوده.

فأقبل عليه الناس لما رصدوه فيه من تقوى و زهد و لوامع الكرامات و سر الولايات فكان رضي الله عنه لشدة ورعه ينهي الناس عن قصده للتبرك منفرا لهم، و زاجرا إياهم عما يقصدون من زيارته و يقول تنفيرا و تشديدا: كلنا واحد في الاحتياج إلى ما يحصل به الانتفاع فلا معنى لدعوى المشيخة إلا سوء الابتداع.

في أثناء سفره، و بحلوله بمصر لقي الولي الكبير سيدنا محمودا الكردي العراقي الذي بشره بأنافة رتبته و علو منزلته و قال له لك عند الله تعالى ما هو اجل من مقام القطبانية  و هي البشارة التي بشره بمثلها الولي الصالح سيدي عبد الصمد الرحوي قبلا لما كان في رحلته من تلمسان إلى تونس. و لدى حلوله بمكة لأداء فريضة الحج،تلقى مكاتبة من عالمها الشيخ الإمام سيدي احمد الهندي علوما و أسرارا و أنوارا و في زيارته للمدينة المنورة و التملي بالروضة الشريفة، و السلام على خير البرية محمد صلى الله عليه و سلم و مجد و عظم زار القطب السمان فاخبره بما يصير إليه ماله.

ولما رجع من رحلته الموفقة من الديار المقدسة عام ثمانية و ثمانين بعد المائة و الألف، استقر بتلمسان مدة نحوا من ثماني سنوات رحل إلى فاس قاصدا زيارة المولى إدريس سبط الرسول سليل الدوحة النبوية و نخبة سلالة بضعة الرسول مولاتنا فاطمة الزهراء الباتول.

في العام الواحد و التسعين بعد المائة و الألف لقي في طريقه و هو بمدينة وجدة الخليفة الأشهر جامع كتاب جواهر المعاني سيدنا و مولانا أبا الحسن علي حرازم لا عن سابق معرفة به، فتوطدت الصحبة، و انكشف و بان ما كان في الأزل معلوما فحظي رضي الله عنه بالقبول و كتب في سجل الإخلاء المحبوبين المرموقين بشرف الذكر و علو القدر و خلوص التمكين، انطلق في رحلته إلى فاس و تمت له الزيارة الشريفة لذي الشرف الرفيع مولانا إدريس الأزهر قدس الله سره، ثم عاد إلى تلمسان مخبرا بأنه سينتقل إلى مكان آخر. و من تلمسان انتقل إلى الصحراء سنة ستة و تسعين و مائة و الفو نزل بأبي سمغون قرية القطب الكبير أبي سمغون. و في القرية المباركة الميمونة الطالع بصلحائها و علمائها وقع له الفتح برؤية خير الأنام منقذ الضلال من حلك الظلام، سيد الوجود صلى الله عليه و سلم فأذن له صلى الله عليه و سلم في تلقين الخلق و خروجه من العزلة و التواري عن الخلق فحصل له الإذن في التربية لعموم الخلق بعد أن عين له الورد يقظة لا مناما و كان هذا في سنة ستة و تسعين و مائة و ألف.

و الورد المأذون فيه مؤلف من الاستغفار و الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم و لتمام المائة كمل له صلى الله عليه و سلم الورد بالكلمة الشريفة بكلمة الإخلاص، بعد هذا الفتح و الإذن له في العكوف على التربية و الإفادة كتب له القبول، و اقبل عليه الناس يأخذون عنه و يتلقون منه ما أفاض الله عليه ببركة رسول الله من العلوم و المعارف و الأسرار إلى أن أذن في الانتقال من بلاد الصحراء في السابع عشر من ربيع الأول الابرك سنة  ثلاث عشرة و مائتين و ألف و حل بفاس المحروسة في السادس من الربيع الثاني من العام المذكور، فأقام بها و أنشا زاويته العامرة بالله و برواد الطريقة التيجانية و المحبين و عامة المؤمنين و المؤمنات أبقاها الله شامخة الذرى محاطة بالعناية الإلهية و مكلوءة بالرعاية الربانية عامرة بالذاكرين الله كثيرا و ذاكرات.

تم الإذن و عم الرضا و اتضح الأمر فما بقي إلا المزيد من الشكر لله على أفضاله و إنعامه على ذكر ما خصه الله على يد شيخه و مربيه إذ قال له بعد تمكن رتبته و إخباره بما ادخر له من عظيم المقامات و علي الدراجات فقال له صلى الله عليه و سلم: أنا شيخك و مربيك و كافلك، و انه لا يصل له من الله شيء إلا على يديه و قال له: لا منة لمخلوق عليك، فاترك عنك جميع ما أخذت من جميع الطرق، و قال: الزم هذه الطريقة من غير خلوة و لا اعتزال عن الناس حتى تصل مقامك الذي وعدت به و أنت على حالك من غير ضيق و لا حرج، و اترك عنك جميع الأولياء.

في فاس تم له المقام و الهناء و تمت له فيها تباشير الخير و الصفاء، فلازم رضي الله عنه المقام الأرضي فانتفع به من كتب في جدول المرتقين في ذروة الخصوصية فاقبل عليه العلماء و الصلحاء و التلاميذ يرتشفون من يم علمه الموهوب فذاع صيته و بره بين الخاص والعام قصده الأمراء و الأعيان و الاغمار و الأنذال.

فكيف و قد حل بمدينة العلم و مأوى سليل الشجرة النبوية المولى إدريس الأزهر التي استظلت بظل علم العدل و عالم السلاطين و أمير المنيبين السلطان المولى سليمان بن مولانا محمد الشريف الذي قال فيه الشيخ رضي الله عنه في إحدى رسائله إليه بعد أن اخذ منه ورده السيد الذي هو ذروة العز و سنامه سيدنا الفاضل بل الشريف الأصيل ذي الشرف الباذخ، الثابت الأصل حامي حمى الإسلام رافع راية الخلافة الإسلامية المتحلي بحلية الملة المحمدية ملاذ الحاضر و الباد اعني بذلك سيدنا و مولانا أمير المؤمنين سيدنا سليمان بن محمد نصره الله نصرا عزيزا……

ففي فاس المصونة و في شهر محرم الحرام فاتح سنة أربعة عشر بعد المائتين و الألف حل رضي الله عنه مقام القطبانية التي كانت له مطلبه المتوخى الذي بشر به في حال ترحاله لطلب العلى و التمكن في مرتبة الكمال. و لم يمض شهر و نيف على ارتقائه في درجات مقام القطبانية الأعظم حتى كمل له مقام الكمية المخفي حقيقته على جميع الخلائق ما عدا سيد الوجود صلى الله عليه و سلم، مقاما رفيع القدر ليس فوقه ما يدانيه أو يوازيه من مقامات العرفين الكمال الصديقين الخلاص الأخيار إلا ما هو مرسوم و محقق لصحابة الرسول الكرام.

وذكر خصوصية هذه المرتبة و تجليها و مستحقيها ينظر في كتب أهل الطريق و من شاء التقريب فلينظر كتاب البغية لسيد العارفين الإمام الجليل و القطب الأبهى النور الساري الابهر في شرحه لمنية المريد شيخنا و سيدنا محمد العربي بن السايح الشرقي العمري رضي الله عنه.

اتضحت إذا معالم هذه الشخصية الفذة الذي ادخرها لهذا الزمان المتأخر حيث شاع صيته و ذاع في الأفاق ذكرها فاظهر الله به و على يديه و ببرزخية رسوله الأمين دينه و احكم به شرعه، تنورت ببركات علومه القلوب و الأمصار فاجتمع عليه خلق الله منبهرين  بما حباه الله من شمائل عزيزة و أخلاق في التربية كريمة فاخذ عنه علمه و طريقته المبشر بها و المأذون فيها من شيخه و مربيه علماء الأمة و قادتها و خاصها و عامها فأحبته القلوب و ركنت لطلعته البهية النفوس فارتوت منه و ارتشفت ما قدر الله لها، و صارت طريقته تسري بسريان النسيم في اليوم القائظ.

فقصده الأمثال و الأخيار من كل قطر يأملون سماع علمه و اخذ عنه ورده. فمن المغرب الأدنى و الأوسط و الأقصى إلى ربوع إفريقيا في ما وراء نهر السنغال إلى مالي و نيجريا و مصر و الشام، و حبرت الكتب في شخصه و طريقته و سبب انتشارها في الأفاق حتى احتضنتها القلوب بالتعهد و الاشتياق.

فتح الله به قلوبا غفلا لم يطرق الدين بابها من البلاد التي كان اغلب أهلها على الفطرة الطبيعية أو على دين المجوسية، فدخل الإسلام بفضل العلماء الكبار الذين اخذوا طريقته فنشروها بين الأقران و الأمثال و الأصحاب.

فعم بحمد الله سنى طريقته في ربوع البلاد الأخرى غير المغرب من بلاد العرب والعجم تمكن الدين و صفاء العقيدة و حسن المقصد في من أذن لهم في الطريقة الفضلية فكثر الذاكرون الله بذكر الكلمة القدسية المشرفة كلمة الإخلاص: لا اله إلا الله.

فانشرحت الصدور بفضل من الله لتقبل الدعوة إلى الله و ها نحن نرى في هذا المجمع المهيب و المحفل السني الأصيل ثلة من أنحاء العالم يحضرون هذا اللقاء حامدين الله على إتاحة و تسهيل هذه الفرصة لهم لزيارة فاس، مدينة الخير و البركات و العلم و المعرفة و المبرات ليروا بأنفسهم و يسمعوا ما أفاء الله به على هذا البلد المحب للأشراف و الصلحاء المحتضن رفات شيخهم و إمامهم الذي ساقتهم السعادة إلى احتضان طريقته الاحمدية المحمدية السنية الخيرية الوسطية المعتدلة في تحبيب خلق الله إلى خالقهم.

و تحبيب الخالق إلى خلقه بالحكمة النيرة و الموعظة الحسنة و حسن الاقتداء و إتباع السنة و إخلاص العبودية و انه لمما يثلج الصدور بالاطمئنان و الحبور أن هذا الشيخ و زاويته و فروعها في المغرب حظيت بفائق العناية و كريم الرعاية من الدولة العلوية الشريفة، هذه الشجرة الوارفة الظلال التي استظل بها الغادي و البادي استظل بعدل سلاطينها و ملوكها.

و لا زالت العناية و الرعاية من لدن حكم الإمام العادل و الخليفة الأكمل مولانا سليمان جدد الله عليه سحائب رحمته إلى عهد سليل الملوك الحاني على الرعية بمزيد من الرفق المقسط في حكمه الملهم في أمره، أمير المؤمنين و حامي حمى الملة و الدين و مرجع الأمن و المظلوم الساعي من غير فتور و لا كلل لصالح الأمة جلالة الملك العادل محمد السادس أيده الله بنصره و شمله بألطافه في حله و ترحاله و اقر عينه بقرة العين ولي العهد الأمير الشريف مولاي الحسن، و شد أزره بصنوه الجليل ذي الشمائل البهية و الأخلاق السنية مولاي رشيد أرشده الله لما فيه تقواه و مبتغاه آمين.

و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

كتبه و ألقاه يوم الخميس 12 جمادى الثانية 28/06/2007

محمد الكبير أبو عقيل ابن الحاج الأحسن البعقيلي، أمنه الله و رعاه.