بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

هذه مساهمة في التعريف بكتاب جليل من أهم مؤلفات العالم العلامة سيدي الحاج الأحسن البعقيلي ومن أكثر ما تحتاجه الأمة الإسلامية و في هذا الظرف الذي تعيشه بالذات ، فهو باختصار (كتاب هذا العصر).

هو كتاب (الإشفاق على مؤلف الاعتصام مما أفكه وجناه على أهل الاستسلام) وقد قال فيه الدكتور عدنان الزهار في كلمته التي ألقاها بمناسبة الملتقى العالمي الثالث للمنتسبين للطريقة التجانية ( رجب 1435هـ الموافق لماي 2014م) والذي دارت فعالياته بفاس المحروسة بالله، قال: “أنا أقول، هذا كتاب الإشفاق كل طالب علم تجاني ينبغي أن يحفظه حفظا” ا.هـ ولعل الأخ الكريم أراد بذلك أنه يجب على كل فقير تجاني أن يفهم (الإشفاق) بأن يفهم معانيه ومقاصده، وأضاف سيدي محمد الكبير البعقيلي رضي الله عنه: “وكذلك كتاب رفع الخلاف والغمة فيما يظن فيه اختلاف الأمة“.

 والدراسة التي نحن بصدد التقديم لها تتناول ثلاث محاور من أهم محاور الكتاب رد فيها الفقيه الأحسن البعقيلي على كل من العالمين الجليلين: الإمام أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي والفقيه المالكي أبو بكر محمد بن وليد الطرطوشي الأندلسي الملقب بابن أبي رندقة، فقد خالفهما الرأي وعارضهما في كل من قضايا: العمل بعموميات النص، تصنيف البدعة والمعصية وتصنيفها.

وهذا العمل قد قام بإنجازه مجموعة من الفقراء التجانيين بتونس على رأسهم الأستاذ عبد اللطيف الزرقي. بطلب و اشراف من سيدي الحاج الحبيب التونسي جزى الله الجميع بكل خير على خدمة الطريقة و الفقراء.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا المقال مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر وسبباً للتعريف أكثر بمؤلفات شيخنا البعقيلي وأداةً للتقارب و المشاركة العلمية بين مختلف مشارب الطريقة التجانية خاصة وبين مختلف الفرق الإسلامية عامة لما فيه صلاح هذه الأمة، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} (17) سورة الرعد.

 

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

ادارة موقع القماري البعقيلي

http://zaouiatijania.ovh

دراسة لبعض مباحث كتاب الإشفاق على مؤلف الإعتصام

لسيدي الحـاج الأحسـن البعقيلي رضي الله عنـه

(عمومات النصوص / البدعة / المعصية)

بسم الله الرحمان الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد الفاتح الخاتم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 

مقدمة:

إنّ الشيخ الإمام سيدي الحاج الأحسن بن محمد بن أبي جماعة البعقيلي، ككلّ خلفاء ونوّاب الشيخ سيدي أحمد التجاني، برغم علوّ مقاماتهم وعظيم مكانتهم وجزيل أعمالهم وواسع معارفهم، فإنّهم لم يقدّموا شيئا من عنديّة أنفسهم، وإنّما هم في كلّ ذلك يغترفون من بحر الشيخ القطب المكتوم قدس الله سرّه.

فالإمام البعقيلي تلميذ الشيخ ونائب عنه في زمانه، دفعته الغيرة على الطريقة التجانية والفقراء التجانيين حين دخل يوما زاوية فاس المعمورة فوجد الفقراء يقرؤون في كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي، فأراد أن يكتب لهم ما يكفيهم عن قراءة كتب القوم، فجاءنا في زمن قياسي بمدوّنة علميّة تربو عن السبعين كتابا مع المئات من الرسائل التي أثرى بها مكتبة الطريقة ووضح بها ما خفي من مسائل في شتّى العلوم الشرعية والذوقية على السواء. فقد كان فارسا لا يبارى ونبعا لا ينضب في علم تزكية النفس، ومع ذلك فقد كان إماما في جل العلوم الشرعية من علوم القرآن، وعلم التفسير، وعلوم الحديث رواية ودراية، وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم المقاصد، وعلم العقائد، وعلم الفرق والمذاهب، وعلوم اللغة، وعلم البلاغة والبيان، وعلم المعاني، وعلم المنطق، وعلم السير، وغيرها من العلوم التي مكنته إحاطته بها من أن يتبين الغث من السمين من أقوال العلماء، وأن ينبري للدفاع عن الشريعة وعن الأمّة أمام زيف المزيّفين أو جهل الجاهلين. فقد كان الشيخ البعقيلي يحمل همّ الأمّة ويذود عن حياضها بسيوف الغيرة العلوية الذّابّة عن الشريعة والطريقة والحقيقة.

قال الإمام تاج الدين السبكي في كتابه “رفع الحاجب شرح مختصر ابن الحاجب”: “إنّ الصواب أن يردّ من كلام المصنّفين ما يجب ردّه، ويقبل ما يجب قبوله، وأمّا التكلّف والتمحّل والحمل على أبعد المحامل فشيء تستنكره العقول، ولا يرضاه لنفسه ذو نفس أبيّة، بل كلّ يؤخذ من قوله ويترك إلاّ صاحب القبر صلّى الله عليه وسلّم”[1]

ولذلك، وضمن هذا الاعتبار، فقد ألف الشيخ البعقيلي كتابا، على صغر حجمه، يعتبر من أميز الكتب في بابه، وهو كتاب: “الإشفاق على مؤلف الاعتصام مما جناه وأفكه على أهل الاستسلام”. يرد به على ما ورد في كتاب “الاعتصام” للإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي الأندلسي (ت 790 هـ)، ويردّ به أيضا على ما ورد في كتاب “الحوادث والبدع” للفقيه المالكي أبو بكر محمد بن وليد الطرطوشي الأندلسي الملقب بابن أبي رندقة (ت 520 هـ).

والشاطبي صاحب الاعتصام ليس بالرجل الهيّن في باب العلوم الشرعيّة، فهو الإمام المعروف والعالم المتبحّر في شتّى العلوم والمعارف خاصّة منها أصول الفقه والأخص علم المقاصد. الشيء الذي جعل الفقيه الشيخ سيدي الأحسن البعقيلي يقول عنه: “فمؤلفه له ترجمة ظاهرة كالشمس على عَلَم وهو بحر العلم … فوفور العقل مؤد إلى حمل العلم على غير موضعه فلذلك اشترطوا في القاضي ألاّ يكون ذا دهاء وأيضا كثرة فنون العلم من غير ملاقاة العارفين المنقدين عليه أعماله يؤدي إلى ما صار إليه هذا الرجل الفاضل من تسمية كتابه الاعتصام بالكتاب والسنة مناضلا عنهما في زعمه بما أبطل به جوهر الكتاب والسنة الذي هو عمومات خطاب الله المبين”[2]

فظاهر كلام الشيخ البعقيلي في مواقع كثيرة من كتابه تدلّ على أنّ الشاطبي لم يقل ما قاله إلاّ من باب الغيرة على الدّين والدفاع بزعمه عن الشرع وتحصين حدود الشريعة من المبتدعة حسب فهمه ورأيه، وهو ما يشفع له عند الشيخ البعقيلي فيدعو له قائلا: “اللهم إنّي سألتك بذاتك تعالى أن تغفر لي وله ولجميع السابّين للأمّة فإنّهم قصدوا في نظرنا يا ربنا خدمة السنة فأدّتهم الحدّة إلى سبّ أعلام الأمّة”[3].

 

 

فهذه الدراسة الوجيزة تتناول كتاب الإشفاق للشيخ البعقيلي في ثلاث مباحث أساسية تبدو أهمّ من غيرها، وهي:

–     مسألة وجوب العمل بعمومات النصوص

–     مسألة البدعة بين الحدّ الصحيح والتضييق

مسألة المعصية وأنواعها



[1] رفع الحاجب شرح مختصر ابن الحاجب للإمام تاج الدين السبكي ورقة عدد 409. حقق بجامع الأزهر ولم يطبع. ورد القول على هامش كتاب منع الموانع على جمع الجوامع للسبكي بتحقيق الدكتور سعيد بن علي محمد الحميري على الصفحة 40.

[2]  الإشفاق على مؤلف الاعتصام للشيخ الحاج الأحسن البعقيلي ص22

[3]  الإشفاق الشيخ الأحسن البعقيلي ص39

وهي تطرح قضية أحكام الأخذ بالدليل الشرعي العامّ أو الخاص أو العامّ المخصوص.

  1. 1.   حكم العامّ في الشرع:

 

العامّ في اللغة هو اسم فاعل من عمّ يعمّ عموما، فهو عامّ وعموميّ، ومعناه الشامل للأمر والمحيط بالمتعدد. فمن أهمّ معانيه لغة الشمول والإحاطة.

وأمّا اصطلاحا فهو على حسب ما ورد في “جمع الجوامع” لتاج الدين السبكي، هو “لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر”[1] وهو نفس الحدّ الذي يتبناه الشيخ البعقيلي. أي يتناوله دفعة. فالعامّ وهو أحد أقسام وضع اللفظ للمعنى الوارد ضمن مباحث القواعد الأصولية اللغوية، هو الحكم المستفاد من اللفظ العامّ الذي يشمل كل ما يصلح له من الأفراد تحته دفعة واحدة بوضع واحد من غير حصر أو تحديد لأفراده. مثال ذلك قوله تعالى: “إنّ الله بكل شيء عليم”، فلفظ “كلّ” من ألفاظ العموم، فدلّ على أنّ علم الله سبحانه وتعالى يستغرق كلّ شيء فلا يستثنى منه شيء مهما كان، فهو يتناول كل ما يصلح له من الأفراد تحته دفعة واحدة بوضع واحد من غير حصر أو تحديد لأفراده. أو قوله تعالى: “وما من دابّة إلاّ على الله رزقها” فلفظ “ما” يفيد العموم فدلّ على استغراق جميع أفراد الحكم وهي جميع الدواب، أي الحيوان الناطق أو غيره، الذي يدبّ أي يتحرك سواء يمشي على اثنين أو أربع أو أكثر من ذلك أو يسبح أو يحبو أو يطير أو يقفز أو غير ذلك، فكلها يشملها عموم الآية لأنّها تدخل في حكم الدواب، لا يستثنى منها شيء. فالآيتان وردتا في سياق العموم فدلتا على جميع أفراده الصالحة له.

وألفاظ اللغة التي تفيد العموم كثيرة، منها:

ü   كلّ والذي والتي وأيّ وما ومتى وأين وحيثما ونحوُها (مثل: جميع والذين واللاتي واللواتي واللائي ومَنْ وأيّان… وغيرها) للعموم حقيقةً[2]

ü   الجمع المعرف بـ أل الاستغراقية أو المعرف بالإضافة[3]

ü   المفرد المحلّى بـ أل ما لم تكن عهدية[4]

ü   النكرة في سياق النفي[5]

وحكمه أنّه يوجب العمل بالحكم في كلّ ما يتناوله قطعًا.

والعامّ ثلاثة أنواع هي: العامّ الذي أريد به الخصوص، والعامّ الذي أريد به العموم، والعامّ المخصوص.

  1. العامّ الذي أريد به العموم: هو عام قطعيّ الدلالة على العموم، وذلك بأن يقوم الدليل على انتفاء احتمال إرادة الخصوص به. قال تعالى “وما من دابّة إلاّ على الله رزقها”[6]، فالآية هنا وردت في سياق العموم أفاد ذلك لفظ “ما” ثمّ دل على العموم دلالة قطعية حين انضافت له “مِنْ”، فهو عام قطعيّ الدلالة على العموم.
  2. العامّ الذي أريد به الخصوص: عام قطعيّ الدلالة على الخصوص لقيام الدليل على أنّ المقصود بهذا العامّ بعض أفراده لا كلّهم، مثال ذلك قوله تعالى “ولله على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا”[7] فالمقصود بالناس هنا المكلّفين فقط، فهو عام يقصد به الخصوص. أو قوله تعالى “فمن شهد منكم الشهر فليصمه”[8]، فلفظ “مَنْ” في الآية أفاد العموم ولكن المقصود به الخصوص أي المكلفين من غير الصبي أو المجنون أو ساقط الأهلية إذ الحديث الشريف يخرجهم من التكليف وهو قوله صلى الله عليه وسلم “رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل”.[9]
  3. عام مخصوص، وهو العامّ المطلق الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم. قال تعالى “والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء”[10] فلفظ المطلقات ورد عاما ولم ترد قرينة تنفي دلالته على العموم ولا تنفي احتمال تخصيصه فجرى حكم العدّة المذكور على المطلقات سواء قبل البناء أو بعده، هذا قبل ظهور المُخَصِّص الوارد في قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها فمتّعوهنّ وسرّحوهنّ سراحا جميلا”[11]

والخلاف والنزاع كلّه في هذا النوع الأخير من العموم، فمن قائل بوجوب العمل به على الفور دون تأجيل أو تراخ ثم البحث عن مخصصه إن وُجد، وهم أرباب العموم، ومن قائل بوجوب عدم العمل به حتّى نبحث له عن مخصص فإن وجد عملنا بالمُخَصِّص في خصوصه وبالعامّ في عمومه، وإن لم يوجد عملنا به على عمومه، والقائلين بذلك هم أرباب الخصوص. والنزاع بينهما على أشدّه في هذه المسألة واستتباعاتها، ومن أهمّ هذه الاستتباعات: قضية البدعة.

 

  1. 2.   مبدأ السلف الصالح في العمل بالعمومات قبل البحث عن المُخَصِّص

ولكن رغم ذلك كلّه فإنّ العمل بالعامّ من الكتاب والسنة، هو مذهب جمهور العلماء.

فقد أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه نادى الصحابي الجليل سعيد بن المعلى رضي الله عنه، وكان قائما يصلّي، فلم يجبه حتى قضى صلاته، فعاتبه النبي صلى الله عليه وسلّم على ذلك وقال له: ألم تسمع قول الله تعالى “يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم[12]“. الحديث[13]. والآية وردت على العموم لورود لفظ الذين، فشملت جميع المؤمنين بالخطاب دون تخصيص، على أيّ هيئة أو حالة هم، فاقتضى ذلك أن الصحابي الجليل يشمله الخطاب حتى وإن كان في حالة صلاة وتعبّد. قال الإمام تاج الدين السبكي في تعريف العامّ: “(العامّ) لفظٌ يسْتَغْرِقُ الصَّالِح لَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ… وعُمُومُ الأشخاصِ يسْتَلْزِمُ عُمُومَ الأحْوَالِ والأزْمِنَةِ والبِقَاعِ[14]، معناه أنّ شمول العامّ لجميع الأفراد الصالحين للحكم بغير حصر يستلزم شمولهم على أي حالة هم وفي أي زمان و في أي مكان، والقيام في حضرة الصلاة حالة من الأحوال، فاستلزم ذلك أن الصحابي يشمله الخطاب العامّ حتى في حالة الصلاة، لذلك نجد أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم دعاه إلى التمسّك بعموم الخطاب الذي لم يرد فيه مخصص. وقد وقع مثله لأبيّ بن كعب مع الرسول صلى الله عليه وسلم. فهي دعوة صريحة منه صلى الله عليه وسلّم إلى الأخذ بعمومات النص.

وقال صاحب جمع الجوامع: “ويتمسّك بالعامّ في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل البحث عن المُخَصِّص وكذا بعد الوفاة”[15]

وكان الصحابة رضوان الله عليهم على منهجه وسنّته وسيرته، فقد ثبت عنهم باليقين الذي لا يرقى إليه الشكّ أنّهم كانوا يحملون ألفاظ الكتاب والسنّة على العموم إلاّ ما دلّ الدليل على تخصيصه، فالواجب إتباعهم، خاصة وهم أعرف الناس بالشرع وباللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم وتكلّم بها الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أُثِرَ عنهم عملهم بعمومات القرآن وعمومات الحديث، في وقائع كثيرة حصل معها القطع بأنّهم كانوا مجمعين على الأخذ بالعموم ما لم يصرفها صارف عن عمومها إلى الخصوص. ولم ينقل أحد عنهم التوقف عن العمل بالعامّ إلى أن يستقصي البحث عن المُخَصِّص، ولا أنكر أحد منهم على من استدلّ بالعامّ قبل استقصاء البحث عمّا يخصصه، بل قد روي عنهم خلاف ذلك، فقد حكم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بدية الأصابع بمجرد العلم بكتاب عمرو ابن حزم رضي الله عنه، وترك القياس والرأي، ولم يبحث عن المُخَصِّص ولم يسأل عنه. وتمسّكت فاطمة الزهراء رضي الله عنها بعموم آية ” يوصيكم الله في أولادكم”[16]، فطالبت بنصيبها من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خيبر وأرض فدك وصدقته بالمدينة، ولم تبحث عن المُخَصِّص، أي ما يُخَصِّصُ عموم الآية، إذ لو بحثت واستقصت في البحث لوجدته، وقد أقرّها أبو بكر على ذلك الاحتجاج ولم ينكر عليها، ولكن بيّن لها أنّ العموم في هذه الآية مَخْصُوصٌ بالحديث الشّريف: “لا نورث ما تركنا صدقة”[17] أي معشر الأنبياء.

وعلى سيرتهم كان الأئمّة الأربعة رضي الله عنهم، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل.

أمّا الإمام الشافعي، ولعل الجميع عليه عَالَةٌ في هذا العلم، علم أصول الفقه، فهو صاحبه ومؤسسه وله قصب السبق فيه فلا يرقى إلى مكانته فيه أحد من المتقدّمين أو المتأخرين، ومع ذلك فقد قال، وهو ظاهر كلامه، في الرسالة: “الكلام على عمومه وظاهره حتى تأتي دلالة تدلّ على خصوصه”[18]، وقال أيضا: “فكل خطاب في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في كلام الناس فهو على عمومه وظهوره إلاّ أن يأتي دلالة تدل على أنّه خاص دون عام، وباطن دون ظاهر”[19]، وقال أيضا في كتاب اختلاف الحديث: “القرآن عربي كما وصفت، والأحكام فيه على ظاهرها وعمومها، وليس لأحد أن يحيل منها ظاهرا إلى باطن، ولا عاما إلى خاص إلا بدلالة”[20]، وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: قال الشافعي في “الرسالة”[21]: “كل كلام كان عامّا ظاهرا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على ظهوره وعمومه حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”[22]

وأمّا الإمام أبو حنيفة، فقد قال صاحب فواتح الرحموت بشرح مُسَلِّم الثبوت[23]، الشيخ العلامة عبد العلي السهالوي[24]: “والحنفية يوجبون العمل به قبل البحث، واستقر هذا المذهب إلى الآن”.

وأمّا الإمام أحمد بن حنبل فقد رُوِيَ عنه قولان: بالأخذ بعموم النص، وبعدم الأخذ به إلى حين البحث عن المُخَصِّص. فأمّا القول الأوّل فقد استخرجه أصحابه ممّا جاء في رواية ابنه عبد الله أنّه سأله عن الآية إذا جاءت عامّة مثل قوله تعالى: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما”[25] وأخبر أنّ قوما يقولون: لو لم يجئ فيها خبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم توقفنا عندها فلم تقطع حتّى يبيّن الله لنا فيها أو يخبر الرسول، فقال أحمد قوله: “يوصيكم الله في أولادكم”، كنّا نقف عند ذكر الولد لا نورّثه حتّى ينزل الله أن لا يرث قاتل ولا عبد؟ فهو استنكار منه رضي الله عنه أن يقال يجب الإمساك عن قطع يد السارق في حدّ السرقة، اعتبارا لعموم الآية، حتّى يرد المُخَصِّص الذي يفسر محل القطع إن كان الرسغ أو المرفق أو العاتق، وقدم ابن حنبل رضي الله عنه مثالا آخر دلالة على عدم معقولية إبطال حكم العامّ حتى ورود المُخَصِّص، وهو قوله تعالى “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين” فقال إن كلمة أولاد وردت على العموم، فوجب حسب هذا الاعتبار الفاسد أن نمسك عن تمكين الوارث من ميراثه حتى ينزل الله تعالى أن القاتل والعبد لا يرثان. قال القاضي أبو يعلى (ت 458 هـ) تعليقا عليه في كتابه “العدّة”: “وظاهر هذا هو الحكم به (أي الحكم العامّ) في الحال من غير توقف (أي من غير توقف للبحث عن المُخَصِّص)”[26].

وغير الأئمّة الأربعة ممن تبعهم في الأخذ بعمومات النصوص كثير، فقد اختار هذا القول من العلماء مثلا الصيرفي من الشافعية، واختاره من المالكية ابن حزم الظاهري (ت 456هـ)، والقاضي أبو يعلى الفراء، وابن عقيل (ت 513هـ)، وابن قدامة (ت 620هـ)، والبيضاوي (ت 685هـ)، والسبكي (ت 771هـ) وغيرهم كثير.

ولكن لسائل أن يسأل: فمن أين جاء الخلاف بين العلماء في هذه المسألة إذن؟

الجواب أنّ الخلاف في أصله نقل عن بعض المتكلّمين الذين يعتبرون أنّ ألفاظ العموم التي يراها علماء الأصول دالة على العموم هي في الحقيقة لا تدلّ على العموم، وإنّما تدلّ على جمع القلّة كثلاثة أو أكثر، وقيل اثنان، مثال ذلك قولنا: جاء إلى الحفل كلّ النّاس، فإنّ المقصود بكلّ الناس هنا ليس الناس جميعهم وإنما البعض منهم الذين حضروا الحفل، فأجريت لفظة “كل” على البعض دون الكلّ رغم أنّها من ألفاظ العموم. وكذلك قولنا: زارني جميع من في الحيّ، المقصود به بعض من في الحي وليس كلهم، وعلى هذا تجري كل ألفاظ العموم، فهي حسب رأيهم دالة على أقل الجمع، ولا تدلّ على مطلق العموم إلاّ بقرينة دالة على ذلك. ثم تبنى هذا القول بعض علماء الأصول وقعدوا له في بابه، فكان الخلاف والنزاع في مسألة العمل بعمومات النصوص. وفي مطلق الأحوال فإنّ هذا القول باطل في بابنا، لا يمكن الاعتداد به.

 

  1. قول الشاطبي بإبطال العمل بالعموم ووجوه الردّ عليه

ولكن الإمام الشاطبي[27]، رحمه الله، خالف عمل السلف الصالح في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وفي عهد التابعين، وخالف جمهور العلماء، وأخذ بالقول القائل بوجوب إبطال عمل العموم من النصوص حتّى يظهر الدليل الذي يصرفه عن عمومه إلى الخصوص.

فإذا كان البحث عن المُخَصِّص واجب قبل العمل بالعامّ، كما يقول الشاطبي ومن لفّ لفّه، فهذا يُبْطِلُ دلالة العامّ، ويؤخّر العمل به، وهو خلاف الانقياد بالعمل والإتّباع. وهو يفضي إلى تعطيل عمومات الكتاب وجعلها في هيئة المجاز، في حين أنّ الأصل المتّفق عليه لدى أهل العلم هو بقاء العامّ من النصوص على عمومه ما لم يدخله التخصيص، وإذا كان الأمر كذلك فيجب البقاء على الأصل والعمل به.

إذن فالأظهر في هذه المسألة الأصولية أن الأصل العمل بالعامّ قبل البحث عن المُخَصِّص، حتّى لا تتعطّل دلالات النصوص العامّة، وهي بالكثرة التي يعلمها الجميع، وأمّا البحث عن المُخَصِّص فهو حتميّ بعد العمل بالعامّ من أجل القطع بصحّة عمومه.

وهذا في الحقيقة شبيه بالعمل بالدليل الشرعي، فإنّ من شروط صحّة العمل بالدليل، كما يقول علماء الأصول، عدم وجود المعارض الصحيح، لكن هذا لا يعني، عندهم، التوقف عن العمل بالدليل حتى يتأكّد من وجود المعارض أو عدمه، بل عليه أن يعمل بالدليل مع البحث عن المعارض، فإذا سلم من المعارض صحّ له العمل. فكذلك يجب العمل بالعامّ مع البحث عن المُخَصِّص، فإذا وجد المُخَصِّص عمل بالخاص في خصوصه والعامّ في عمومه، وإذا لم يوجد المُخَصِّص صحّ العمل به في عمومه مطلقا.

 

  1. 4.   ظاهرة تبديع الأمّة من خلال كتاب الإعتصام

ولكن الشاطبي رأى خلاف ذلك، واعتبر أنّ الواجب عدم العمل بالعامّ حتّى يبحث له عن مخصص، وأنتم تعلمون سعة دائرة الشرع وكثرة أدلته وتداخلها وعسر جرد جميع أحكامها بحثا عن المُخَصِّص الموهوم إن كان موجودا أم لا، وفي تلك الأثناء فإنّ الحكم العامّ معطّل عن العمل به، فإلى ماذا سيفضي ذلك؟ طبعا سيفضي إلى إبطال العمل بكثير من الأحكام الشرعية الواردة على عمومها، وهي بالكثرة التي تعلمون. ونتيجة للقول بهذا الرأي لدى الشاطبي ومن شابهه في القول من أمثال الطرطوشي[28] وغيره، النتيجة التي بناها على هذا القول هي أنّ كل عمل، حتّى وإن كان مستنبطا من عمومات القرآن والسنّة، ولم يكن عليه الرسول وأصحابه، فإنّه بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار، استنادا للحديث المعروف. وهو قول لا يستقيم بحال كما يراه الشيخ الأحسن البعقيلي، إذ كيف للمكلفين وإن كانوا من الصحابة الإتيان بجميع المأمورات الشرعية على عمومها، فهو أمر محال عقلا وشرعا. لذلك فإنّ الشيخ الإمام سيدي الحاج الأحسن البعقيلي برز له ولمن قال بقوله، ذابّا عن الدين والشرع، ومدافعا عن الأمّة المصطفاة بقوله تعالى “ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا”[29]، من تهمة التبديع التي علقها برقاب أغلب الأمّة المرحومة، فأحلّ أعراضهم وجرّأ الجهّال والعوامّ على سلفها الصالح، وعلى أتقيائها وعلمائها وصالحيها، حتّى صار الإمام مالك سبّة، عند من أخذ بقوله وتبع منهجه. قال الشيخ الأحسن البعقيلي: “فلو عرف مسود الاعتصام كغيره ممن شرب من سمّه أو شرب هو من سمّ باطله، ادّعاء منهما عدم الابتداع، وهما لا غيرهما المبتدعان، تجريح الأمّة، سِبابُ المسلمِ فسوقٌ[30] ما جناه بإغراء شيطانه الذي لم يسلم، ما أحدثه وما أورثه لمن بعده من لهب نار الفتن حتّى سبَّ كثيرٌ من الأغمار بسببه مالكًا وكفّره ولعن الشيخ خليلا والصحابة والتّابعين بإحسان إلى يوم الدّين كالعارفين المقتدى بهم من ابن عربي والغزالي وأبي يزيد البسطامي والجنيد والنووي والترمذي والشاذلي إلى آخر كلّ إمام اقتدي به في دائرة الإسلام”[31]. هذا ما وصل إليه الأمر فصار الإمام مالك مبتدعا حسب قولهم. بل أكثر من ذلك، فقد قال الشاطبي بنبوغ البدعة في آخر قرن الصحابة، وهو قول فيه جراءة كبيرة على الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول مردود على جميع الوجوه والأحوال. قال الشيخ البعقيلي في الإشفاق: “لقد أتى شيئا امرا نكرا حيث دلّ النّاس على أنّهم مبتدعون من زمن الصحابة حيث قال: نبغت البدع في آخر قرن الصحابة، فما هو إلاّ مطموس البصر والبصيرة”[32].  وسيأتي الحديث عن مسألة البدعة في محله من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى.

 

  1. 5.   وجاهة رأي الشيخ الأحسن البعقيلي في الرد على الشاطبي

لذلك فإنّ تشبث الشيخ الأحسن البعقيلي بمسألة عمومات النصوص هو موقف وجيه جدّا، يدلّ على أهميّة المسألة من ناحية، ويدلّ من ناحية ثانية على فهم عميق جدّا لروح الدين وكيفية الأخذ بالمقاصد الشرعية عند التعامل مع الشريعة أفعالا وأقوالا وأحوالا، على مستوى الفروع والأصول.

وكما تحدث الشيخ عن أصل المسألة التي انبنى عليها القول بتبديع الأمّة المحمّديّة المشرّفة والعياذ بالله، وهي مسألة إبطال العمل بعمومات النصوص من الكتاب والسنّة، على خلاف ما كان عليه الصحابة والسلف الصالح، فقد تحدّث الشيخ أيضا عن الفرع الناتج عن هذا الأصل، وهي قضيّة البدعة التي أصبحت مع الشاطبي وغيره ممن قال بقوله أو تبع خطاه عن علم أو عن جهل، إلى الآن، سبّة يسم بها كل من خالفه الرأي أو تمسّك بغير ما يقول، فمهّد بجرأته على الشرع وأهله لأمر كنّا منه حذرون، أن يسبّ أواخر هذه الأمّة أوائلها، والعياذ بالله.


[1]  جمع الجوامع لتاج الدين السبكي الكتاب الأول / في الكتاب ومباحث الأقوال ص44. الطبعة الثانية 2003 م. منشورات محمد علي بيضون. دار الكتب العلمية بيروت لبنان.

[2]  جمع الجوامع ص 45

مثال ذلك: قال تعالى “كل نفس ذائقة الموت”(آل عمران 185)، أو قوله تعالى “إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا”(النساء 10)، وقال تعالى “وأحلّ لكم ما وراء ذلكم”(النساء 24) فلفظ “ما” يشمل كل ما عدا المحرمات المذكورة قبل الآية. وقال تعالى “من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا”(البقرة 245)

[3] مثال: قال تعالى “قد أفلح المؤمنون” (المؤمنون 1)، فالمؤمنون أفادت العموم لأنها جمع معرف بأل الاستغراقية، وقال تعالى “يوصيكم الله في أولادكم” (لنساء 11) أولادكم أفادت العموم لأنها جمع معرف بالإضافة.

[4] مثال: قال تعالى “وأحل الله البيع وحرّم الربا” (البقرة 275)، أو قوله تعالى “السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما”(المائدة 38)

[5] مثال ذلك قوله تعالى “ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدًا” (التوبة 84)، وقال صلى الله عليه وسلم “لا يُقتلُ والدٌ بولده” و”لا وصية لوارث” و”لا ضرر ولا ضرار”. أمّا النكرة الواردة في سياق الإثبات فليست من ألفاظ العموم، كقوله تعالى “إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة” (البقرة 67)

 

[6]  هود 6

[7]  آل عمران 97

[8]  البقرة 185

[9] أخرجه أحمد 100/6، والدارمي 171/2، وأبو داود 558/4 الحديث 4398، والنسائي 156/6، وابن ماجه 657/1. كلهم من رواية حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أم المؤمنين، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه قال: “رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتّى يعقل”.

[10]  البقرة 288

[11] الأحزاب 49

[12] الأنفال الآية 24

[13] قال سعيد بن المعلى رضي الله عنه: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم، ثم قال لي: إنّي لأعلّمك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي، فلمّا أراد أن يخرج قلت له ألم تقل لأعلّمنّك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قال: الحمد لله ربّ العالمين، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. (تفسير القرطبي في تفسير البسملة ج1 ص1).

[14] تاج الدين السبكي في جمع الجوامع ص 44.

[15]  جمع الجوامع لتاج الدين السبكي ص 48. طبعة 2003 م. دار الكتب العلمية بيروت لبنان.

[16] النساء الآية 11

[17] صحيح البخاري الحديث 3092

[18]  الرسالة ص 295. وهي كتاب الإمام الشافعي في أصول الفقه.

[19]  الرسالة ص 322. وهي كتاب الإمام الشافعي في أصول الفقه.

 

[20]  الرسالة ص 580. وهي كتاب الإمام الشافعي في أصول الفقه.

[21] الرسالة هي كتاب كتبه الإمام الشافعي وهو أول ما صُنف في أصول الفقه.

وقد أراد الإمام الشافعي -رحمه الله -بتأليفه هذا الكتاب أن يضع الضوابط التي يلتزم بها الفقيه أو المجتهد لبيان الأحكام الشرعية لكل حديث ومستحدث في كل عصر. وهو من الكتب التي رواها الربيع عن الشافعي.

[22]  البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي 2 / 190

[23] كتاب: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت.
للشيخ العلامة: عبد العلي محمد بن نظام الدين محمد السهالوي الأنصاري اللكنوي
تحقيق: عبد الله محمود محمد عمر. دار الكتب العلمية. يتكون من جزأين
صدرت طبعته الأولى بتاريخ 1423 هـ الموافق لـ 2002 م

[24] وهو: عبد العلي محمد بن نظام الدين محمد السهالوي الأنصاري اللكنوي

[25] المائدة الآية 38

[26]  كتاب العدّة في اصول الفقه للإمام أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي (شيخ الحنابلة في عصره) تحقيق الدكتور أحمد بن علي بن سير المباركي طبعة 1990 م. ص 526 ج 2.

[27]  أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي الأندلسي (ت 790 هـ) له كتب من أهمّها كتاب الموافقات (كتاب في أصول الشريعة)، وكتاب الاعتصام (كتاب في أهل البدع والضلالات).

[28]  أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الأندلسي، ويقال له ابن أبي رندقة (451 هـ ـ 520 هـ) له كتب منها: كتاب الحوادث والبدع.

[29]  سورة فاطر الآية 32

[30]  قال صلى الله عليه وسلم: “سباب المسلم فسوق وقتاله كفر” الراوي: عبد الله بن مسعود المحدث: البخاري -المصدر: صحيح البخاري -الصفحة أو الرقم: 48

[31]  الإشفاق على مؤلف الاعتصام ص 38 للشيخ الأحسن البعقيلي.

[32]  الإشفاق على مؤلف الاعتصام مما جناه وأفكه على أهل الاستسلام للشيخ الإمام سيدي الأحسن البعقيلي ص39

استهل الشاطبي حديثه عن البدعة بتعريفها تعريفا دقيقا فقال “البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية”[1]. ويشرح هذا التعريف مبينا مصطلحاته على الوجه الذي يمرر المعنى الذي يريده فيقول في معنى مضاهاة البدعة للشريعة “يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها”[2] 

وقال: “يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى وهو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك لان الله تعالى يقول (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)[3] فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى ولم يتبين له أنّ ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف”[4]

والمتأمل في كلام الشاطبي عن البدعة يجده متفرعا عن قضية أصولية في محل خلاف، تناولها الشاطبي في كتاب “الموافقات في أصول الشريعة“، حيث تناول مناهج المكلفين في تحديد مقاصد الشارع من الشريعة وسماها مسالك الكشف عن المقاصد وهذه المسالك هي المناهج التي تبيّن مقصود الشّارع من الشّريعة. وما لم يقصده منها. وقد أوصلها الشّاطبي إلى أربعة مسالك[5]. المسلك الرابع فيها هو: سكوت الشارع عن الإذن مع قيام الدّاعي.

والقضية الخلافية التي بنى عليها الشاطبي مسألة البدعة تكمن في هذا المسلك الرابع، فقد اعتمد الشّاطبي مسألة سكوت الشّارع كمسلك من مسالك الكشف عن المقاصد، وسمّاه “سكوت الشّارع عن الإذن مع قيام الدّاعي”، وقال عنه “هنا حكم البدع”[6]، وقد وضع الشّاطبي هذا المسلك ليؤسس عليه قوله في البدع، فبنى كتابه “الاعتصام” على هذه القاعدة التي اعتبرها كمسلمة والواردة في هذا المسلك، وهي أنّ سكوت الشارع عن الإذن في أمر ما مع قيام الدّاعي لهذا الإذن زمن التشريع دليل على المنع. فجوهر هذا المسلك يكمن في سكوت المشرّع عن الإذن فيما هو مطلوب الإذن فيه مع قيام الداعي الشرعي لذلك وهو التصريح بالحكم وعدم السكوت عنه، وخلاصة هذا المسلك أنّ الأعمال التعبّديّة التي لم يقم بها صلّى الله عليه وسلم أو التي لم يأمر بها أو لم يأذن فيها تُعَدُّ بدعًا، ومن اجتهد في ابتكار عبادة لم تكن على عهده صلى الله عليه وسلم فهو مبتدع، ومثال ذلك قوله تعالى ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً[[7] فهذا أمر من الله بالصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم  فمن ألزم نفسه بعدد محدد من الصلاة على الرسول في زمن مخصوص فقد ابتدع على وفق ما ذهب إليه الشاطبي في هذا المسلك لأن الشارع صلى الله عليه وسلم سكت عن ضبط عدد محدد في زمن محدد مع قيام الداعي لهذا الضبط والتحديد، ولكن بقي كلامه في ما يتعلق بالأمر بالصلاة عليه  من قبيل الحث والتحفيز على الإكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لا غير، دون تعيين زمن لهذه الصلوات عليه،  أو تحديد عدد لها. وإن كان أشار على أحد الصحابة بصلاة بعينها فهو من باب تقديم المثال والنموذج وليس من باب الحصر والتقييد بهذا اللفظ دون غيره من ألفاظ الصلوات عليه صلى الله عليه وسلم[8]، والدليل على ذلك كثرة صيغ الصلوات عليه صلى الله عليه وسلم في عهد الصحابة أنفسهم، فصيغة علي كرم الله وجهه في الصلاة على رسول الله مأثورة معلومة، وصيغة عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، كذلك مشهورة معروفة، وغيرها من الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، في عهد الصحابة، والتابعين، وغيرهم من العلماء، والعارفين، من هداة هذه الأمّة المرحومة المغفور لها.

    فالنتيجة التي انتهى إليها هذا المسلك، هو أنّ الأمور التي أُحدِثت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إمّا أن تكون من قبيل المصالح المُرسَلة، وتشمل العادات في الأكل واللباس والهيئة والأمور الخادمة للشريعة، كجمع القرآن والحديث ووضع المذاهب الفقهية[9]، وإمّا أن تكون من الأمور المتعلّقة بالعبادة كالتزام أوراد معيّنة لم ترد في السنّة، فاعتبرها الشاطبي بدعا لأنّ العبادة توقيفيّة، والسكوت في أمرها “كالنصّ على أنّ قصد الشّارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص”[10]. والعمل بهذا المسلك على ظاهره يُفضي إلى تبديع فئات كثيرة من المسلمين، لذا كان هذا المسلك عُرضة لانتقادات كثيرة، وقد أسقطه الشيخ العلامة محمد الطاهر ابن عاشور ولم يذكره عندما لخّص كلام الشّاطبي في المسالك التي تُعرف بها مقاصد الشرع[11]، ولم يسقطه نسيانا[12]، ولا استقلالا من أهميته[13]، بل رفضًا له و لِمَا يترتّب عليه من القول بتعميم البدعة، وإن لم يفسر ابن عاشور هذا الرّفض في كتاب المقاصد فقد فسّره وعلّله في موضع آخر عندما تحدث عن البدعة، حيث شرح قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رِدٌّ”[14]. وظاهر هذا الحديث يتوافق مع مسلك سكوت الشّارع، لكنّ الشيخ الطاهر ابن عاشور يرى أنّ الأمر على خلاف ما يظهر، قال: “فإن لكلمة- أمرنا – ولكلمة – في- ولكلمة- من – خصوصّيات هنا بليغة فالتعبير بأمرنا الذي يعني شأننا ومجموع أحوالنا يشمل كلّ ما يرجع إلى أحكام الإسلام ويدخل تحت معانيه، ولو قيل من أحدث في سيرتنا أو في سنّتنا أو أحدث عملا من عملنا لم يفد ذلك، كما إنّه لو قيل من أحدث في ديننا لظنّ أنّ المَنْهي عنه هو دين جديد، ولكلمة- في- خصوصيّة وهو أن يكون الإحداث داخلا في الدين وليس في أحوال المعيشة،… وكذلك كلمة – من – فإنّها مؤذنة بأنّ المُحدَث المردود ما كان غير متّصل بالدين ومن المعلوم أن ليس المراد بكون الأمر من الدين أن يكون وقع التّنصيص عليه في الدين لأنّه لو كان كذلك لن يتصور أن يكون محدثا، فتعيّن أنّ المراد يكون ليس منه: أن لا يأوي إليه”[15]. فدلّ كلام الشيخ ابن عاشور على أنّ كل ما يرجع إلى الدين أصوله وقواعده بوجه من الوجوه لا يُعدّ بِدَعا.

وقد بين الشيخ سيدي الأحسن رضي الله عنه أن أصل هذه القضية وهو -اعتبار سكوت الشارع في الأمور التعبدية كالنص على عدم الزيادة – لا يقوم عليه دليل، وأن هذا الحصر والتقييد لا يصح بصريح القرآن والسنة وأقوال الأئمة والعلماء.

أما صريح القرآن فقد تحدث سبحانه وتعالى عن أتباع عيسى بن مريم عليه السلام فقال “وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حََّق رِعَايَتِهَاّ”[16] وعطفت الجملة المتعلقة بابتداع الرهبانية  في الآية على  جملة “وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه” لاشتراك مضمون الجملتين في أنه من الفضائل المراد بها رضوان الله”[17] ويرى ابن عاشور أن المعنى الإجمالي لهذا الجزء من الآية المتعلق بابتداع الرهبنة يفيد أنهم “ابتدعوا لأنفسهم رهبانية ما شرعناها لهم ولكنهم ابتغوا بها رضوان الله فقبلها الله منهم لأن سياق حكاية ذلك عنهم يقتضي الثناء عليهم في أحوالهم”[18]  ومما يدل على أن سياق ذكر ابتداعهم الرهبنة هو سياق مدح وليس بسياق ذم قوله تعالى “فَمَا رَعَوْهَا حَّق رِعَايَتِهَاّ”، ويقول ابن عاشور عن ذلك “الكلام مسوق مساق اللوم على تقصيرهم فيما التزموه أو نذروه وذلك تقهقر عن مراتب الكمال وإنما ينبغي للمتقي أن يكون مزدادا في الكمال”[19] فيكون مدحُهم على ابتداعها ولومهم على تضييعها أدلّ دليل على جواز الاجتهاد في ابتكار أعمال تعبدية لمزيد التقرب لله سبحانه وتعالى. “وقد خرّج سعيد ابن منصور وإسماعيل القاضي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: {أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم إنّما كتب عليكم الصيام فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه فإنّ ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فلم يرعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال “ورهبانية ابتدعوها…”}[20]. (الآية).مامة الباهلي رضي الله عنه أنّه  ويقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن في هذه الآية “حجة لانقسام البدعة إلى محمودة ومذمومة بحسب اندراجها تحت نوع من أنواع المشروعية فتعتريها الأحكام الخمسة كما حققه الشهاب القرافي وحذاق العلماء وأما الذين حاولوا حصرها في الذم فلم يجدوا مصرفا”[21]، هذا فيما يتعلق بحكم القرآن في البدعة على نحو ما ضبطها به الشاطبي فلم يستقم مفهوم البدعة الذي حدّه في مستهل كتابه الاعتصام قياسا على هذه الآية.

         أما ما يدل من السنة على قصور هذا الضبط فأحداث كثيرة وقعت للصحابة رضوان الله عليهم في اجتهاداتهم التعبدية لله تعالى بأعمال وأدعية من غير أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد عيّنها لهم سلفا. ومن أمثلة ذلك ما ورد عن رفاعة بن رافع[22] أنّه قال: “كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ مَنْ الْمُتَكَلِّمُ قَالَ أَنَا قَالَ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ”[23] فهذا صحابي  اجتهد في المبالغة في حمد الله في صلاته خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقره الشارع على اجتهاده بل ومدحه عليه، وصار النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر بها أصحابه حيث قال: “إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهمّ ربنا لك الحمد، فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غُفِر له ما تقدّم من ذنبه”[24]. وكذلك ما روي عن محمد بن عبد الرحمان عن أمّه عمرة بنت عبد الرحمان وكانت في حجر عائشة من “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟» ، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ»[25]، وأورد ابن حجر العسقلاني في فتح الباري عند شرح هذا الحديث: أنّ هذا يدلّ على أنّه كان يقرأ بغيرها ثم يقرؤها في كلّ ركعة، وهذا هو الظاهر.[26]، أو أنّه كان يقرأ بها في الركعة الثانية فقط. فهذا أيضا اجتهاد من الصحابي الجليل رضي الله عنه في ابتكار ختم القراءة في الصلاة بسورة الإخلاص، فمدحه الشارع على ذلك، ولو كان الأصل في العبادة التوقف على عمله صلى الله عليه وسلم كما يراه الشاطبي  لكان من الأولى ذم هؤلاء الصحابة على اجتهاداتهم تلك، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم مدحهم عليها فدل هذا المدح على جواز الاجتهاد في الأعمال التعبدية ما لم يرد فيها نص بالحصر والتوقيف على وفق ما أقره الإمام الشافعي الذي كان يرى أن “الأحكام في القرآن على ظاهرها وعمومها وكذلك الحديث عن رسول الله على عمومه وظهوره حتّى يأتي دلالة بأنه أراد به خاصا دون عام”[27] واستثناء الأعمال التعبدية من هذه القاعدة أمر لا يقوم عليه دليل. وما لا دليل عليه فهو مردود حتمًا.

 وقد استنبط الأئمة والعلماء حكم البدعة وأقسامها من القرآن والسنة، واستدل الشيخ الأحسن البعقيلي في كتاب الإشفاق بأقوال الأئمة في تقسيم البدعة على وفق أقسام الحكم الشرعي[28] فقد صح عن الشافعي أنه قال “المحدثات من الأمور ضربان، أحدهما ما أُحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة، والثانية ما أُحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا وهذه محدثة غير مذمومة”[29] 

         وقسم العزّ ابن عبد السلام البدعة على وفق الأقسام الشرعية[30]، أي بدعة واجبة أو مندوبة أو مكروهة أو محرمة أو مباحة، ثم قال “إن الطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة أو في قواعد التحريم فمحرمة أو الندب فمندوبة أو المكروه فمكروهة أو المباح فمباحة”[31]. وقد سار شهاب الدّين القرافي على نحو ما سار عليه العزّ في تقسيم البدعة وفق أقسام الحكم الشرعي الخمسة[32]. وغيرهما ممن قال بقولهما كثير.

وعلى هذا الأساس ارتكز الشيخ الأحسن البعقيلي، فبيّن أنّ العمل بعمومات القرآن يؤصّل ما أحدثه المجتهدون من طُرق العبادة المختلفة. والمسائل التي اُعتُبرت (تَجَنِّيًا) بِدَعا وفق مسلك سكوت الشّارع عن الإذن، قد اعتبرها الشيخ البعقيلي اجتهادات وفق مُقتضى عُمومات القرآن، كالصّلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم المُبْتَكَرة من مشايخ الطُّرق والمجتهدين فإنّها جميعا داخلة تحت قوله تعالى ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً[[33]، وهو أمر عام لا تقييد فيه، لا من جهة اللفظ، ولا من جهة العدد، ولا من جهة الوقت[34]. وكذلك الاجتماع على ذكر مُعيّن، أفذاذا أو جماعات، وإن لم يتواتر العمل به زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة، فهو داخل في عموم قوله تعالى ]وَاذْكُرُوا اللَّهَ[[35]، وذكر الله “لا يكون إلا بأسمائه، أو بما يُفيد تعظيما من كلّ لفظ، أفذاذا وجماعات، بأن تجتمع أمّة على التعاون والتعاضد بصوت واحد على لا إله إلا الله بلفظ الجملة أو بالله”[36]. وهو ما يفعله أهل الطرق الصوفيّة، فهي أعمال استجاب بها أصحابها لأمر الشارع وإذنه في العمل. فدلّ ذلك على أنّها متّصلة بالدين إمّا بالتّنصيص بالأوامر العامّة أو باستجابتها لمقصد من مقاصد الشّارع.

 وقد فصَل الشيخ البعقيلي بين الابتداع باعتباره إنشاء قاعدة شرعيّة لم تكن على عهد السلف، وبين الاجتهاد في تطبيق ما قرّره السّلف من قواعد شرعيّة، أو ما ورد في النصّ من أوامر عامّة، “فباب الاجتهاد مفتوح إلى آخر الأمّة، علما وأعمالا وأخلاقا، فكلّ مجتهد في مقامه، وإنّما استتمّ السّلف ابتكار القواعد الشرعيّة استقراء، حتى لا توجد بعدهم قاعدة تُبتكر، فرست سفينة الاجتهاد بما ابتكروه، فأعظمهم نفعا الأئمة الأربعة، ثم أئمة الصوفيّة”[37]. ومن هنا يستنتج الشيخ البعقيلي أنّ “كلّ ما أحدثه المسلمون قاطبة للتقرّب به إلى الله اقتضاه الدليل الشرعيّ، وإن لم يُنقل من فعل الصحابة، وعليه فما استنبطه الرّاسخون في العلم أو العمل كالعبادة، والأحوال كالصوفيّة، والأذواق كالمقربين بالله منه، لا يحلّ لمسلم أن يسمّيه بدعة”[38]، إنّما البدعة هي مخالفة القواعد الشرعية التي قرّرها الشّارع وضبطها المجتهدون.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ ّ الأمة الإسلامية أُمرت “بإحداث كلّ ما فهمته وقدرت عليه من غير حرج على أحد لكثرة المأمورات، فلا تتمّ إلاّ مع قيام الساعة، فالقرآن لا تنقضي عجائبه في الدنيا والآخرة”[39]. فلا يجب أن نقف في تتبّع معاني القرآن ومقاصده حيث وقف السّلف، “فإنّه لم يجب أن يستعمل السّلف جميع المأمورات”[40]

وبعد هذا التأصيل لاندراج البدعة تحت أقسام الحكم الشرعي الخمسة يقدم الشيخ سيدي الأحسن مفهوم البدعة الذي يتلاءم مع التأصيل المتقدم معارضا به مفهوم البدعة الذي قدمه الشاطبي. ففي البداية يقسم الشيخ سيدي الأحسن البدعة إلى نوعين:

*      النوع الأول البدعة اللغوية “فالبدعة لغة ما لم تعرفه العرب لكونه لم يعهد لهم فالدين عندهم بدعة كالتوحيد والوضوء والصلاة ذات ركوع وسجود إلى آخر الحقائق الشرعية والمناخل العادية والخوان وأكل لباب السميد من القمح والكتابة والكتب”[41] والبدعة بهذا المعنى لا عبرة بها عند المسلمين[42].

*      أما النوع الثاني فهو البدعة الشرعية، وهي البدعة التي يخالف بها صاحبها أصول الشريعة وقواعدها بقصد التحريف والابتداع، وهي من الكفر، وهي موضوع البحث “فالبدعة الشرعية منحصرة في أنواع الكفر فالمبتدع كافر لا غير”[43]. فالبدعة هي ما قصد بها صاحبها مخالفة الشرع، لذلك وسمت بالكفر.

     ومن هذا التقسيم يستنتج الشيخ البعقيلي مفهوم البدعة الذي يستوعب كل ما قاله الأئمة عن تقسيم البدعة إلى محمودة ومذمومة “فحد البدعة الفعلة المخالفة للسنة لأن قائلها ابتدعها من غير مقال إمام وهي الأمر المحدث الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي، فكل ما أحدثه المسلمون قاطبة للتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى اقتضاه الدليل الشرعي، حتى وإن لم ينقل من فعل الصحابة”[44].

وبهذا يكون الشيخ البعقيلي قد تفاعل مع قضية البدعة بدرجة عالية من المرونة الفكرية التي تساهم في الجمع والتأليف بين المسلمين ويَظهر توجه الشيخ في هذا الباب بجلاء عندما تناول حديث الفرقة الناجية حيث صحّ أنه صلى الله عليه وسلم قال: “افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ قَالَ: الْجَمَاعَةُ”[45]. وقد جعل الشاطبي هذا الحديث تعبيرا عن رأيه في البدعة فيقول “الفرق فيها عند أكثر العلماء فرق أهل البدع”[46] ثم ساق كلاما مطولا عن بعض الأحكام المتعلقة بالمبتدعة حسب بدعتهم[47]، ومن جملة ما ذكر أنه لا ترثهم ورثتهم، ولا يكفنون، ولا يدفنون في مقابر المسلمين[48]، وهو حكم بكفرهم، وهذه القراءة والفهم لحديث الفرقة الناجية يرفضها الشيخ الأحسن البعقيلي ويقدم دلالة أعم لمفهوم الأمة ولمفهوم النجاة، فاعتبر أن الفِرق المذكورة من بني إسرائيل والفِرق التي تدخل النار من هذه الأمّة كلّها فرق كفرية تدخل النّار خلوداً[49]. واعتمد مؤرخو الفرق الإسلامية على هذا الحديث وصنّفوا الفرق الإسلامية إلى ثلاث وسبعين فرقة يحكمون عليها جميعا بالكفر ولا يستثنون إلاّ الفرقة التي يرونها، كفعل الشهرستاني[50] في “الملل والنحل”[51]. وقد خالفهم الشيخ البعقيلي فيما ذهبوا إليه وحدّد مفهوم الأمة الوارد في الحديث “فالأمّة كلّ حيّ وُجد من بعثته إلى قيام الساعة فاثنتان وسبعون منها هم أمّة الدعوة الجاحدون برسالته صلى الله عليه وسلم فكلّهم في النار خلوداً”[52]. فمفهوم الأمة عند الشيخ أعمّ منه عند غيره، أمّا الفرقة الناجية في الحديث فالشيخ البعقيلي يعتبرها “أمّة الإجابة المقرّة المذعنة الراضية، وهم أهل لا إله إلاّ الله، فهم المستثنون للجنّة خلوداً، فلا تفسّرها بطوائف المسلمين فإنّه غير مراده”[53]. فكلّ من أقرّ بوحدانية الله ورسالة محمّد صلى الله عليه وسلّم ينتمي إلى الفرقة الناجية أيّاً كان نهجه العقائدي أو الفقهي[54]. ورغم أن الشيخ البعقيلي يقرّ بأن بعض الفرق الإسلامية قد حادت عن نهج السنة كالجبرية والمعتزلة ولكنه لا يذهب مذهب من يكفر ويبدع، وغاية ما يمكن أن توصف به هذه الفرق، عنده، هي صفة الغفلة والمعصية، ومن هنا يقدم لنا الشيخ البعقيلي حدّ المعصية التي يمكن أن يقع فيها المسلم المقرّ بالرسالة.


[1] – الشاطبي (إبراهيم بن موسى): الاعتصام، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، مكتبة التوحيد، د ت، 1/ 43.

[2] – الشاطبي: الاعتصام، 1/ 46.

[3] – الذاريات آية 56.

[4] –  الشاطبي: الاعتصام، 1/ 48-49.

[5]– الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت لبنان، د ت 2/393-414.

[6]– الشاطبي: الموافقات، 2/409.

[7]– الأحزاب: آيـة56.

[8]  – حدثنا القعنبيّ، عن مالك، عن نُعَيم بن عبد الله المُجمِر، أن محمد ابن عبد الله بن زيد-وعبد الله بن زيد هو الذي أُرِيَ النداءَ بالصلاة-أخبره عن أبي مسعود الأنصاري أنه قال: أتانا رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم -في مَجلِسِ سعد بن عُبادة فقال بَشيرُ بن سعد: أمرنا اللهُ أن نُصلَّي عليك يا رسول الله، فكيف نُصلَّي عليك؟ فسكت رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -حتى تمنَّينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “قولوا” فذكر معنى حديث كعب بن عُجرة، زاد في آخره: “في العالَمين، إنك حميدٌ مجيدٌ” {سنن أبي داود ت الأرنؤوط، ط 2، حديث رقم 980}، فنلاحظ من خلال هذا الحديث وقول الصحابي الجليل أبي مسعود الأنصاري: “فسكت حتى تمنينا أنّه لم يسأله” عدم رضا الرسول صلّى الله عليه وسلم لسؤال الصحابي لما فيه من تضييق على الأمّة، ومما يشهد لذلك أنّه صلى الله عليه وسلم عدّد صيغ الصلاة عليه منها الصلاة الإبراهيمية بصيغتين مختلفتين (وحدّثنا ابنُ السَّرْح، أخبرنا ابن وهب، أخبرنى مالك؛ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزم، عن أبيه، عن عمرو بن سُلَيم الزُّرَقي، أنه قال:

أخبرني أبو حُميد الساعِدِي أنهم قالوا: يا رسولَ الله، كيف نُصلّي عليك؟ قال: “قولوا: اللهم صلَّ على محمد وأزواجِه وذُرَّيًتِه، كما صلّيتَ على آل إبراهيم، وبارِكْ على محمد وأزواجِه وذُرِّيَّتِه، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد” {سنن أبي داود المصدر السابق حديث رقم 979} / حدثنا محمد بن العلاء، ْ حدثنا ابن بشر، عن مسعَر، عن الحكم، بإسناده بهذا، قال: “اللهمَ صل على محمّد وعلى آل محمَّد، كما صلَّيتَ على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَ بارِكْ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ” {سنن أبي داود المصدر السابق حديث رقم 978}) وكذلك الصلاة الأمية (حدثنا أحمد بن يونس، حدّثنا زهيرٌ، حدثنا محمد بن إسحاقَ، حدَثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد الله بن زيد عن عقبة بن عمرو، بهذا الخبر، قال: “قولوا: اللهم صل على محمدِ النبيِّ الأُميّ وعلى آل محمَّد” {سنن أبي داود نفس المصدر حديث رقم 981})

[9]– الشاطبي: الاعتصام، 2/111.

[10]– الشاطبي: الموافقات، 2/412.

[11]– ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية الشركة التونسية للتوزيع، ط1 تونس د ت، ص ص22-23.

[12]– ذكر عبد المجيد النجار أنّ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور لم يذكر هذا المسلك ضمن المسالك التي تعرف بها مقاصد الشريعة لعدم انتباهه له: الريسوني(أحمد): نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، 1412هـ=1992م، ص ص250-251.

[13]– هذا ما فسّر به الأستاذ أحمد الريسوني عدم ذكر ابن عاشور لهذا المسلك ضمن مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة: الريسوني: ن.م، ص251.

    [14]- البخاري: ن.م، كتاب الصلح رقم52، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود رقم5، حديث رقم2697، ص514.

      [15]- ابن عاشور: مقالات محمد الطاهر ابن عاشور، إعداد وضبط علي الرضا الحسيني، الدار الحسينية للكتاب، دون ذكر البلد، 2001، ص ص60-61.

[16] –  الحديد آية 27

[17] – ابن عاشور (محمد الطاهر): التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984،27/423

[18] –  ابن عاشور (محمد الطاهر): التحرير والتنوير،27/423

[19] ابن عاشور (محمد الطاهر): التحرير وال تنوير27/426

[20] أخرجه ابن جرير في التفسير ج 27 ص 247 وابن أبي الدنيا في فضائل رمضان حديث رقم 54. وقد أورد الشاطبي هذا الحديث في باب شرح الآيى ج2 ص 136.

[21] ابن عاشور (محمد الطاهر): التحرير وال تنوير27/424

[22] أبو معاذ رفاعة بن رافع الزُّرَقي الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه. رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الأنصاري الزرقي. وأمه أم مالك بنت أبي بن سلول، يكنى أبا معاذ شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد معه بدراً أخواه خلاد ومالك ابنا رافع، شهدوا ثلاثتهم بدراً. واختلف في شهود أبيهم رافع بن مالك بدراً. وشهد رفاعة بن رافع مع علي الجمل وصفين.
وتوفي في أول إمارة معاوية سنة 41 للهجرة

 7323 –  أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الأصبهاني ، ثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل ، ثنا إبراهيم بن يحيى بن محمد المدني الشجري ، حدثني أبي ، عن عبد بن يحيى ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي ، عن أبيه رفاعة بن رافع ، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة فلما هبطا من الثنية رأيا رجلا تحت شجرة – قال : وهذا قبل خروج الستة الأنصاريين – قال : فلما رأيناه كلمناه فقلنا : نأتي هذا الرجل نستودعه حتى نطوف بالبيت فسلمنا عليه تسليم الجاهلية فرد علينا بسلام أهل الإسلام ، وقد سمعنا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنكرنا فقلنا : من أنت ؟ قال : ” انزلوا ” فنزلنا فقلنا : أين الرجل الذي يدعي ويقول ما يقول ؟ فقال : ” أنا ” فقلت : [ ص: 207 ] فاعرض علي فعرض علينا الإسلام وقال : ” من خلق السماوات والأرض والجبال ؟ ” قلنا : خلقهن الله . قال : ” فمن خلقكم ؟ ” قلنا : الله . قال : ” فمن عمل هذه الأصنام التي تعبدونها ؟ ” قلنا : نحن . قال : ” فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق فأنتم أحق أن تعبدكم وأنتم عملتموها والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه وأنا أدعو إلى عبادة الله وشهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وصلة الرحم وترك العدوان بغصب الناس ” قلنا : لا والله لو كان الذي تدعو إليه باطلا لكان من معالي الأمور ومحاسن الأخلاق فأمسك راحلتنا حتى نأتي بالبيت فجلس عنده معاذ بن عفراء قال : فجئت البيت فطفت وأخرجت سبعة أقداح فجعلت له منها قدحا فاستقبلت البيت فقلت : اللهم إن كان ما يدعو إليه محمد حقا فأخرج قدحه سبع مرات فضربت بها فخرج سبع مرات فصحت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فاجتمع الناس علي وقالوا : مجنون رجل صبأ . قلت : بل رجل مؤمن ، ثم جئت إلى أعلى مكة فلما رآني معاذ قال : لقد جاء رفاعة بوجه ما ذهب بمثله فجئت وآمنت وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة يوسف ، و اقرأ باسم ربك الذي خلق ثم خرجنا راجعين إلى المدينة فلما كنا بالعقيق قال معاذ :إني لم أطرق أهلي ليلا قط فبت بنا حتى نصبح فقلت : أبيت ومعي ما معي من الخبر ما كنت لأفعل ، وكان رفاعة إذا خرج سفرا ثم قدم عرض قومه ” . هذا حديث صحيح الإسناد. لمستدرك على الصحيحين. كتاب الأطعمة. ص 207. الحديث رقم 7323.

[23]  صحيح البخاري، كتاب فضل اللهم ربنا ولك الحمد، حديث رقم   757.

[24] صحيح البخاري كتاب اللهم ربنا ولك الحمد. حديث رقم 763.

[25] – صحيح البخاري، كتاب التوحيد، حديث رقم 7375.

[26] العسقلاني أحمد بن علي بن حجر. فتح الباري شرح صحيح البخاري. دار المعرفة. بيروت. 1379 هـ. ج13 / ص356.

[27] –  البيهقي (أحمد بن الحسين) مناقب الشافعي، تحقيق السيد أحمد صفر، مكتبة دار التراث القاهرة 1/382

[28] – البعقيلي: الإشفاق ص ص 18-19

[29] – البيهقي: مناقب الشافعي 1/469

– البعقيلي: الإشفاق ص 19.

[30] – ابن عبد السلام (العز): قواعد الحكام، 2/172-174.

[31] – ابن عبد السلام (العز): قواعد الحكام، 2/174

 –  البعقيلي: الإشفاق: ص 18.

[32]  القرافي (شهاب الدين): الفروق، الفرق الثاني والخمسون والمئتان، 4/202-205.

       [33]- الأحزاب: آيـة56.

      [34]- البعقيلي(الأحسن): رفع الخلاف، ص16.

       [35]- الجمعة: آيـة10.

[36]– البعقيلي(الأحسن): رفع الخلاف، ص17.

[37]– البعقيلي(الأحسن): رفع الخلاف، ص68.

[38]– البعقيلي(الأحسن): الإشفاق، ص17.

[39]– البعقيلي(الأحسن): الإشفاق، ص49.

[40]– البعقيلي(الأحسن): رفع الخلاف، ص17.

[41] – البعقيلي(الأحسن): الإشفاق، ص17.

[42] –  نفس المصدر، نفس الصفحة.

[43] – نفس المصدر، نفس الصفحة.

[44] – البعقيلي(الأحسن): الإشفاق، ص17.

[45] – ابن ماجه: السنن، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، حديث رقم3991، الكتب الستة وشروحها، ط2، دار الدعوة، اسطنبول، 1992، 3/1321.

[46]  –  الشاطبي: الاعتصام، 1/109.

[47]  الشاطبي الاعتصام 1/291-296.

[48]  – الشاطبي الاعتصام 1/195.

[49] – البعقيلي (الأحسن): رفع الخلاف والغُمّة، ص34.

[50]– أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني(1086هـ – 1156هـ)، عالم فارسي تفقّه على مذهب الشافعي، كان بارعا في علم الكلام ومُلِمّا بالفرق الإسلامية. الموسوعة العربية المُيسّرة، ط2، دار الجيل، مصر، 2001، 3/1487.

[51]– الشهرستاني (محمد): المِلَلْ والنِّــحل، تحقيق عبد الأمير علي مهنّا وعلي حسن فاعور، ط1، دار المعرفة، بيروت لبنان، 1990، 1/19-20، 49. 

[52] – البعقيلي (الأحسن): الشرب الصافي، 1/73.

[53] – البعقيلي (الأحسن): الشرب الصافي، 1/73.

[54] – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “َيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ قَالَ أَبو عَبْد اللَّهِ قَالَ أَبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيمَانٍ مَكَانَ مِنْ خَيْرٍ”. البخاري: ن.م، كتاب الإيمان رقم2، باب زيادة الإيمان ونقصانه رقم33، حديث رقم44، ص32.

يقول الشاطبي في كتابه الاعتصام مفرقا بين درجات الابتداع وصنوف المعاصي “فلا بدعة أعظم وزرا من بدعة تخرج من الإسلام كما أنه لا ذنب أعظم من ذنب يخرج من الإسلام”[1]، وهو بذلك يقسّم المعصية إلى قسمين: قسم لم يوصف بوصف الضلالة ولا يُكفَّر صاحبها ولا يخرج من الإسلام، وقسم يُخرِج بها الشاطبي مرتكبها من حضيرة الإسلام وهي المعاصي التي تعتبر بدعة أو تشبه البدعة  وتوصف بذلك حسب زعمه بالضلالة ويكون مرتكب هذا الصنف من المعاصي على حد تعبير صاحب الاعتصام “من أصحاب البدع الكفرية” الذين “لا يُغسَّلون ولا يُدفنون في مقابر المسلمين ولا يورثون”[2]، وقال: “…والمعاصي لم توصف بوصف الضلالة في الغالب إلا أن تكون بدعة أو تشبه البدعة”[3] ويخرج بهذا عن عقيدة وإجماع أهل السنة والجماعة من كونه (لا تُكفِّروْا أحدا من أهلِ القبلة بذنبٍ وإن عملوْا بالكبائرَ[4])، وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله…) الحديث.[5]، وقال الإمام تاج الدين السبكي: “وأمّا إطلاقنا عدم تكفير أهل القبلة، فهو المنقول عن الأئمّة الثلاثة: الشافعي، وأبي حنيفة، وأبي الحسن الأشعري. فأمّا أبو حنيفة والأشعري فالنقل عنهما صحيح لأنّ أبا حنيفة قال: “أنا لا أكفّر أحدا من أهل القبلة”، وهذا صريح، والأشعري قال في كتاب المقالات: “إنّ المسلمين اختلفوا بعد نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم في أشياء ضلّل بعضهم بعضا، وتبرّأ بعضهم من بعض فصاروا فرقا متباينين إلاّ أنّ الإسلام يعمّ جميعهم”… وأمّا الشافعي فأخذ ذلك من قوله: “لا أردّ شهادة أهل البدع والأهواء إلا الخطابيّة، فإنّهم يعتقدون شهادة الزور”[6].”[7].  فيكون الشاطبي بذلك قد “نفخ في غير ضرم” “وطحن بلا طحن” و”صوب في غير إصابة” وصنف نفسه من المبدّعين للأمة المرحومة (لجمودهم على أنظارهم) فلا يرون الدين إلا من منظارهم (بإبطال أنظار آخرين) فمن رأى غير رأيهم يعد خاطئا مبتدعا ضالا “فاقتصروا على ما علموه وأعرضوا عن تعلم ما جهلوه فظنوا أنهم أحاطوا بظواهر وبواطن الشريعة والحقيقة والطريقة فاختاروا تبديع من أدرك ما لم يحوموا حومه ظانين أن درجة الشريعة جنة واحدة”[8].

ويعبر الشيخ البعقيلي المعروف بالمنحى التبشيري[9] وكرهه للتطرف والغلظة في الدين عن الحال الذي أخذه من السمّ المدسوس في عسل الشاطبي ـ العالم الجليل المعروف بالعدالة والورع ـ للأمة المُعتنى بها أزلا وأبدا عندما اطلع على ما سوده في كتاب الاعتصام بقوله “اقشعر جلدي وتقفقف شعري وتضرّست سني” فأراد أن يزيل النقاب عن محيا مصطلح المعصية ويوضّح له ولنا ــ بفراسة ربانية وبعلم وهبي مكحلا بإثمد الشرع ــ ما أشكل في فهمها فقسمها إلى قسمين كبيرين: مجازية وحقيقية. 

1- المعصية المجازية: المعصية من عصت الدابة حَرَنَت وامتنعت أن تقاد، وتمشي إلى وراء، والمعصية المجازية عند الشيخ البعقيلي هي تلك التي تلبس بها صاحبها وهو “لم يقصد مناقضة الشرع وإنما غلبه عليه هواه وهي مرض يداوى فيترتب عليه الاجتباء والاصطفاء، فالحسنة نور والسيئة ظلام لا يذهب بنور الحسنات ويذهب النور بظلمة السيئات فالمؤمن مصطفى أبدًا لا يموت حتى يغفر له ربه فضلا”[10] والمعصية المجازية محاطة بثلاث طاعات:

ـــ الأولى علمه بالمخالفة للأمر الإلهي وهي طاعة

ــــ الثانية: عدم استحسانها وخوفه من ربه لأجلها فالمؤمن من حيث هو يرى المعصية “سفود نار” على حد تعبير الشيخ البعقيلي، وهي طاعة

ـــ الثالثة الندم على ما صدر منه وهو ما أسماه البعقيلي بكاء القلب وهي أيضا طاعة

فمخالفة واحدة هي ذنب وظلام يغفر بثلاث حسنات مصاحبات له وثلاثة أنوار ساطعة تمحو ظلمة تلك المخالفة، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[11]}، لا العكس. قال الشيخ البعقيلي في كتابه الشرب الصافي حاشية على جواهر المعاني “…فإن العبد حين التبس بالمخالفة على أربعة أوجه: فوجه علمه بحقيقة المعصية طاعة، وهو مرتبة العلم، وخوفه من ربه لها، طاعة، وبكاءُ القلب طاعة، والتلبس بها ذنب… ومعصية مغفورة بالعلم والخوف والندم، فلله الحمد والمنة.”[12].

وقال أيضا في نفس المصدر “وأما المعصية فلا تسماها إلا بالنية فلا ينوي مؤمن مخالفة ربه أبدًا وإنما يغلبه هواه لا غير فباعتبار الشريعة معصية وفي الحقيقة صورتها، فتفطن فإنه نفيس”[13]. وقال أيضا “ومنه تعلم أن أهل المعاصي من المؤمنين المصدقين برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم لم يكن فيهم لله الحمد من يستحسن المعصية مستكبراً بها على الربوبية وإن كان مجاهراً به عند أقرانه فإنه خائف من مقام ربه بدليل انه يستقذر نفسه ويستحي من العلماء والمساجد فهذا كله لا يدور له الفلك بسهم الغضب وان كان مسيئاً جداً حيث خالف أوامر سيده لكنه غطاه الفضل الالهي”[14]

2- المعصية الحقيقية: وأما المعصية الحقيقية وهي المتقنة بشروطها والتي من أهمها أن تكون على وجه الاستكبار على الربوبية وعلى درجة الرسالة وهي المسماة بالكفر فالحقيقية التي هي الكفر لا تُكفَّر بالحسنات ولا بشفاعة الغير فيه كإنكار المعلوم من الدين بالضرورة كتارك الصلاة أو الصيام على وجه الإنكار والاستكبار والتعالي لا تهاونا وكسلا وهي المفتقرة إلى التوبة منه، يقول الإمام البعقيلي في كتابه الذي لم يؤلف مثله في بابه (سوق الأسرار إلى حضرة الشاهد الستار) “وعليه فمن عصى الله معصية متقنة بشروطها بهمة نافذة جاهدة في المعصية على وجه الجحود والاستكبار عن الربوبية يدر له الفلك بسهمه وهو غلة عمله التي هي سخط ربه قطعاً ولا يغفر ذنبه أبدا لأنه جل وعلا حكم بأن من عمل عملا متقناً يدر له الفلك بسهمه وقد أتقن العمل بالجحود والاستكبار والتصحيح على عدم العود نعوذ بالله جل وعلا، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ[15]}، ولا يتقن فرد من أفراد هذه الأمةــ المرحومة المغفور لها قبل أن توجد ــ المعصية وليس في طوق أي فرد من أفراد  أمة الإجابة أن يستكبر على ربه وعلى رسوله أبدا ولله الحمد “فالإيمان طاعة والمؤمن مطيع أبدا وان أزلقه هواه فعل ما فعله أبوه آدم فيجتبى فاجتباء آدم معلوم لله أزلا وأبدا واصطفاء المؤمن عين علم الله وحكمه أزلا وأبدا وندمه وقوله عين معلوم الله أزلا وأبدا فلينته الجاهل بالله وبرسوله وبمقاصد الله وبمقاصد خطابه فلو عرف مسود الاعتصام كغيره ممن شرِب من سمه أو شرب هو من سم باطله ادعاء منهما عدم الابتداع ـ وهما لا غيرهما المبتدعان  ـ تجريح الأمة (سِبابُ المسلمِ فسوقٌ، وقتالُه كفرٌ[16])”[17]، “وإياك ثم إياك من تنقيص واحد من الأمة فإنهم أحباب الله وأحباب رسول الله وتحت حماية نبيه فوجه نبيه يسع أمته فقد نصحتك”[18].

  وقال في قاموس الطريقة والطرق كلها (إراءة عرائس شموس فلك الحقائق العرفانية بأصابع حق ماهية التربية بالطريقة التجانية): “والفرق بين العاصي المؤمن والكافر أن المؤمن بإتباع هواه خالف، مع الإذعان والإقرار بتوجه الأحكام له، وأنه متعد، يطلب العفو من سيده، والكافر بالجحود والاستكبار على أحكام سيده وعدم قبوله لها”.

وقد قسم الإمام البعقيلي المعصية تقسيما آخر فصنفها إلى ثلاثة أصناف:

1 معصية مغلظة والتي هي الكفر

2 معصية متوسطة وهي المبنية على إتباع الشهوات والهوى لا على الجحود والاستكبار

3 معصية خفيفة وهي الحظوظ والأغراض مع الله وهي مبنية على طلب الثواب؛ قال في سوق الأسرار: “فالمعصية على أقسام مغلظة هي الكفر مبني على الجحود ومتوسطة هي المعاصي مبنية على إتباع الهوى لا الاستكبار على الربوبية وخفيفة هي الحظوظ مبنية على طلب الثواب الذي هو من شأن المستأجرين لا العبيد”[19].

ولئن بدّع وكفّر الشاطبي طائفة كبيرة من صلحاء الأمة وعلمائها من أجل معاص اعتبرها هو ــ لحدّته وإفراطه في الدفاع عن الشريعة ــ تشبه البدعة أو هي بدعة يحكم على مرتكبها بالضلالة ولا يغسّل ولا يدفن في مقابر المسلمين فإن الإمام البعقيلي بيّن أن من المعاصي ما هو خير من ألف طاعة لطائفة كبيرة من المؤمنين يخشى عليهم من الغرور بالعبادة وبين ذلك في مؤلفه العجيب “تبصرة الأرواح” بقوله: “فإجراء الذنوب عليك خير لك من طاعة غير مقبولة، فإن الذنب ربما يكون سببا للوصول، بالندم والذلة بين يديه، بسبب كسل أو ملل في الطريق إليه، فإن أفاق انتهض وجدّ. رُبّ ذنب أدخل صاحبه الجنة، لا يزال تائبا فارّا منه خائفا من ربّه حتى يموت فيدخل الجنة.” والذي نفسي بيدِه! لو لم تذنبوا لذهب اللهُ بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون اللهَ، فيغفرُ لهم”[20]. “رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامِه إلا الجوعُ، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السَّهرُ”[21]. فالمعصية التي ترتب عليها الذل والانكسار بسبب الندم، خير من طاعة أوقعت في الاستكبار واستعظام نفسه واحتقار غيره. “أنا عندَ المُنكسرةِ قلوبُهمْ مِنْ أجلِي”[22] فالعبرة بما يتولد عن الطاعة أو المعصية (وهي فوائد الأعمال). “إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم”[23] فثمرة الطاعة الذل، وثمرة المعصية الاستكبار، فإن تبدلت الثمرات تبدلت الفوائد. خزائني مملوءة فإن أردتنا فتجمّل بالذل فلا يوصل (الله) إلا بما ليس له، وهو الذل والانكسار. “لَوْ لمْ تُذْنِبُوا لَخَشِيتُ عليكُمْ ما هو أَشَدُّ مِنْهُ”[24] وهو العجب، فلولا أن الله علم أن الذنب خير من العجب ما خلّى المؤمن يعصيه أبدا فانكسار العاصي خير من صولة المطيع فإذا جرت القدرة إلى المخالفة ولم يقصدها قلبه، فندم وانكسر، كانت له خيرا من ألف طاعة، فالعبد قلم والأقدار الأصابع فالولي لا يقصدها ولا يصرّ عليها والفاسق يفرح بها فمعصية الولي حدها الظاهر”[25]

واسمع لما قاله الإمام البعقيلي في قضية (وعصى آدم) مبينا أن عمارة الآخرة من قصور وحور وجنات بنعيمها ونار بدركاتها ونكالها وعمارة الدنيا من حضارات متعاقبة وديانات متتالية ورسل وكتب سماوية وعلوم وحرف واكتشافات واختراعات وفتوحات إسلامية لأمصار كثيرة شرقا وغربا كشاطبة وعلمائها ومؤلفاتهم لم تكن لتخرج من بطون العدم إلى فسيح الوجود والظهور لولا (وعصى آدم)؛ يقول الإمام البعقيلي: “فعصى عندنا ظرف رباني جامد لا يتصرف وليس فعلا إلا على وجه الاصطلاح”[26]، (فكل من نسب المعصية المعقولة لآدم كفر ومن نفى عنه (وعصى آدم ربه) كفر والطريقة الوسطية أن نقول آمنا بكلام الله (وعصى آدم ربه) وآمنا بان آدم لم يعص معصية ندركها فنكل أمرها إلى الله لعلو منصبه فلا تتصور منه المعصية قطعًا”[27]، ويغوص الإمام البعقيلي كعادته في لجج بحار العلوم الوهبية التي امتصها من ماهية شيخه التجاني الذي أفاض عليه مائة ألف وستة وستون ألف علم تحت كل حرف من حروف القرآن ليستخرج لنا درر العلوم اللدنية الباطنة وباطن الباطنة ملوّحا ومشيرا لما دار بين آدم وربه قبل أن يولد الشاطبي واعتصامه بملايين السنين: قائلا في “مقاصد الأسرار”: “فأسر الله لآدم الذي علمه الأسماء الجمالية والجلالية فالجلالية أسرّت لآدم أن يأكل الشجرة التي نهي عنها لعلة الإسهال فقط لا لتحريم أن يأكلها، ويتوب منها، ليخرج إلى دار تظهر فيها الأسماء كلها، فالجنة إنما هي دار الجمالية فقط، فالأسماء التي علّمها هي التي أرشدته إلى قربه وأكله ليتم أمره وأمر الأسماء كلها فيه، فقالت له ألسنة الأسماء إن قلنا لك لا تأكل فكل فإنك رسول الله، تظهر بسببك الأسماء كلها، فلا تكن سببًا لتعطيل الأسماء الجلالية فإنا أردنا أن نقيم عليك الحجة ظاهرًا فقط، وعلى إبليس ظاهرًا وباطنًا، فيترتب عليه أن يتنسل منك جميع من سبق في علمنا انه مؤمن وكافر من أتباع إبليس ولا بد فافعل ما أمرتك باطنًا، وان نهيتك ظاهرًا، مكرًا بإبليس الخبيث، وبمن استهواهم بمكره، فإنك خليفتي بينتها للملائكة قبل وجودك، فلا تتبدل الحقائق عندي، فكل الشجرة، فإني مناد عليك بأنه عصى آدم ربه فغوى، ثم أردف عليه، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى فكمال سعادتك واجتبائك متوقف على أكل الشجرة فكلها باطنا بإذني وإرادتي، فلا تعصني بعدم الأكل، فإنه سياسة مني على إبعاد إبليس وجنوده، لظهور أسماء جلالي فيهم، فلا بد من فاتح قبضة السعادة وهو أنت، وفاتح قبضة الشقاء (إبليس)، فالحاصل أن الله تعالى بين لصفيه آدم جميع ما يصدر منه بقضائه وقدره، وبين له أن مقصوده أن يرجع إلى دار الخلافة التي تنبني عليه الجنة وأحكامها والنار وأحكامها فتجلى فيه بالأكل”[28].

 

خاتمة:

إذن فحاصل القول أن سيدي الحاج الأحسن البعقيلي في كتابه الإشفاق فرّج على الأمّة الإسلامية المحمّدية كربة ما كان الشاطبي والطرطوشي ومن قال بقولهما ضيّقاه من الشرع، ظنّا منهما أنّ ذلك يحفظ الدين ويحمي الشريعة، وفي ذلك بدّعا أكثر الأمّة، ونسيا أنّ الأمّة أولى من الشريعة [29]، وأنّ المعبود هو الله لا الشريعة، ولكن الله يعبد بالشرع، والشرع محفوظ بالله وبرسوله وبالمؤمنين، فلا تجتمع الأمّة على ضلالة والحمد لله. فالعمل بعمومات الكتاب والسنّة واجب شرعا على رأي السلف الصالح وعلى رأي جمهور العلماء، ولا اعتبار لما قاله الشاطبي وصاحبه، والبدعة أنواع، لا توسم بالضلالة منها إلا الشرعية التي تناقض الشرع، قال الشيخ البعقيلي: “فالمبتدع من أحدث خصلة لم تقبلها أصول الشرع وقصد مناقضة الشرع ولا يقصدها إلا الكافر فله قلنا لا مبتدع في الإسلام البتّة”[30]، وأمّا المعصية فهي المجازية التي تعود إلى الهوى وغلبة النفس ووسوسة الشياطين، ولا يكفر صاحبها، فلا يكفر واحد من أهل القبلة بذنب أبدا، وأمّا المعصية المتقنة فهي التي يقصد بها الاستكبار على الربوبية والعياذ بالله، ولا تكون في أمّة رسول الله أبدا، الأمّة التي قال فيها سبحانه وتعالى: “خير أمّة أخرجت للناس” وقال: “ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا”، وعليه فإنّ الشاطبي والطرطوشي رحمهما الله قد ضيقا واسعا وجعلا رحمة الله محدودة بما وضعاه من حدّ للبدعة والمعصية في الشرع والدين، والأمر في الحقيقة على خلاف ذلك.

فالشيخ الأحسن البعقيلي بردّه على الشاطبي إنّما أراد تعديل ما اختلّ وتصحيح ما وقع من خطأ لدى الإمام الشاطبي وهو مَنْ هو في مكانته العلميّة ومدى تبحّره في العلوم الشرعية، خشية على الأمّة من التسليم بقوله مما يؤدّي بالضرورة إلى اعتبار كثير من أفعال الأمّة يتنزل ضمن البدعة المكفّرة وهو قول خطير جدّا على الأمّة الإسلامية بأجمعها، ولئن عارض الشيخ الأحسن البعقيلي ما ورد في كتاب الاعتصام فإنّ الردّ على العالم المتبحر لا يمكن اعتباره بحال من الأحوال استنقاصا من قدره أو قدحا في مكانته العلمية، وإنما الدافع في كلّ ذلك عند الشيخ البعقيلي رفع التهمة عن الأمّة، وتثبيت المؤمنين على العقيدة الصحيحة واليقين الثابت، بعدما  داخلها بسبب قول الشاطبي، ومن نحا منحاه، الشكّ في صحة عبادتها، وسلامة عقيدتها، وصدق نيتها، غفر الله لنا وله. فمقصود الشيخ البعقيلي خيرية الأمّة، بأن تعبد الله على يقين من أمرها، وليس على شكّ يداخلها في كل حين خشية أن يكون عملها بدعة أو شبيه بالبدعة. (مثل أمّتي مثل المطر لا يدرى الخير في أوّله أو في آخره)[31]. فالشيخ البعقيلي في كتبه جميعها يتّسم خطابه بالتبشير بغير تنفير، وبالتيسير دون تعسير، وبالجمع بلا تفريق، وإتباع الحق حيثما كان، فلا كبير فوق الحق، ولا التزام إلاّ بالشرع. قال الشيخ الأكبر والقطب المكتوم سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه في كتابه جواهر المعاني: زنوا كلامي بميزان الشرع فإن وافقه فقد قلته وإن لا فلا.

والشيخ البعقيلي على هذا المنهج والمنحى يسير في جميع كتبه، فهو كنز نفيس يجب علينا أن نظهر فضله، وننشر علمه، ونفيد ونستفيد من عمق نظرته وجليل مراميه ومقاصده في علوم الظاهر والباطن على حدّ سواء. ولقد بدأ الأمر يتحقق فعلا على أرض الواقع من خلال ما بدأت به الجامعة الزيتونية بتونس من خلال مناقشتها لرسالة ماجستير حول سيدي الأحسن البعقيلي في ضوء المقاصد والتصوّف، للطالب والباحث لطيف زرقي، وما قامت به كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببن مسيك، جامعة الحسن الثاني المغربية المحمدية، الدار البيضاء، في يومين دراسيين سبرت فيهما بعض أغوار هذه الشخصية واستخرجت من درر بحار علومه الزاخرة. فنحن ندعو من خلال هذا المجلس المبارك، أن تتكرر مثل هذه المبادرات، أو على مثالها ونموذجها، فيقع تناول كتب أخرى من مصنّفات الشيخ البعقيلي الكثيرة، فنكون بذلك قد أسهمنا في نشر فكره المرن المتّزن، وذلك أحوج ما يحتاج إليه عصرنا هذا، الذي كثر فيه التّشدّد والتطرّف والتّبديع والتّكفير، يحتاج لعقل منفتح وفكر مرن وعين ثاقبة ترى الحق وتظهره للجميع، ولعلّ ذلك من أخصّ خصائص فكر الشيخ سيدي الحاج الأحسن البعقيلي رضي الله عنه وأرضاه.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله ربّ العالمين


[1]  الاعتصام ج1 ص290

[2]  الاعتصام ج1 ص294

[3]  الجزء الأول من الاعتصام ص 230

[4]  قال صلى الله عليه وسلم: “لا تُكفِّروا أحدًا من أهلِ القِبْلةِ بذنبٍ وإن عمِلوا بالكبائرِ وصلُّوا مع كلِّ إمامٍ وجاهَدوا مع كلِّ أميرٍ” الراوي: عائشة أم المؤمنين المحدث: الهيثمي -المصدر: مجمع الزوائد -الصفحة أو الرقم :1/112

وعن أبي الدرداء أنه قال: “أربعُ خصالٍ سمعتهنَّ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم أحدّثكُم بهنّ فاليومَ أحدثكُم بهنَّ سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول لا تُكفِّروْا أحدا من أهلِ قبلتِي بذنبٍ وإن عملوْا الكبائرَ وصلُّوا خلفَ كل إمامٍ وجاهدوْا أو قالَ قاتلوْا مع كل أَمِيرٍ والرابعةُ لا تقولوا في أبي بكرِ الصديقِ ولا في عمرَ ولا في عثمانَ ولا في عليٍّ إلا خيرا قولوا { تِلْك أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُم}” الراوي: أبو الدرداء المحدث: الدار قطني – المصدر: سنن الدار قطني – الصفحة أو الرقم: 2/193

[5]  صحيح البخاري ج1 / ص 81

[6]  كلام الشافعي على شهادة أهل الأهواء في كتاب الأمّ ج6 ص 210، وكلام العز ابن عبد السلام في قواعد الأحكام ج2 ص 31.

[7]  تاج الدين السبكي في كتابه منع الموانع عن جمع الجوامع ص 246 / 247 / 248 / 249

[8] الإشفاق

[9] لقوله صلى الله عليه وسلم: (بشِّروا ولا تُنفِّروا. ويَسِّروا ولا تُعسِّروا) الراوي: أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس المحدث: مسلم -المصدر: صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم: 1732)

[10] الإشفاق

[11]  سورة هود الآية 114

[12]  الشرب الصافي ج1 ص 178

[13] الشرب الصاقي للشيخ الأحسن البعقيلي ج1 ص 303

[14] سوق الأسرار ص 31 طبعة 1434 هـ للشيخ سيدي الأحسن البعقيلي.

[15]  سورة النساء الآية 48

[16]  الراوي: عبد الله بن مسعود المحدث: البخاري -المصدر: صحيح البخاري -الصفحة أو الرقم: 48

[17]  الاشفاق لسيدي الأحسن البعقيلي

[18]  الشرب الصافي لسيدي الحاج الأحسن البعقيلي ج 2.

[19] سوق الأسرار ص 56 للشيخ سيدي الأحسن البعقيلي.

[20]  الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم -المصدر: صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم: 2749

[21]  الراوي: عبد الله بن عمر المحدث: ابن عدي -المصدر: الكامل في الضعفاء -الصفحة أو الرقم: 8/142

[22]  ذكره الْغَزالِيّ فِي كتابه (بداية الهداية) وَلم يسْندهُ

[23]  الراوي: أبو هريرة المحدث: البيهقي -المصدر: الأسماء والصفات -الصفحة أو الرقم: 2/234

[24]  الراوي: أنس بن مالك المحدث: ابن القيسراني -المصدر: تذكرة الحفاظ -الصفحة أو الرقم: 265

[25]  تبصرة الأرواح (مرقون) ص 57 للشيخ الأحسن البعقيلي.

[26]  مقاصد الأسرار للشيخ البعقيلي.

[27]  الشرب الصافي ج 2 للشيخ الأحسن البعقيلي.

[28]  مقاصد الأسرار ج2 ص 6 للشيخ الأحسن البعقيلي.

[29] قال صلى الله عليه وسلم {لهدم الكعبة أهون على الله من هجم قلب المؤمن

[30] الإشفاق لسيدي الأحسن البعقيلي ص 49

[31] أحمد 130.143/3، والترمذي 2869، تاريخ بغداد 114/11، التمهيد 254/20، الاعتدال 300/4، ابن عدي 918/3، الطبراني في الأوسط 42/5