و الحذر الحذر لمن تحرك عليه شر الناس منكم أن يبادر إليه بالتحرك بالشر لمقتضى حرارة طبعه، و ظلمة جهله، و عزة نفسه، فإن المبادر للشر بهذا -و إن كان مظلوما- فاضت عليه بحور الشر من الخلق حتى يستحق الهلاك به في الدنيا و الآخرة. و تلك عقوبة لإعراضه عن جناب الله أولا. فإنه لو فزع إلى الله بالتضرع و الشكاية، و اعترف بعجزه و ضعفه، لرفع الله عنه ضرر الخلق بلا سبب أو بسبب لا تعب عليه فيه، أو يشغلهم الله بشاغل يعجزون عنه. فإما أن يفعل الله له هذا، و إما أن ينزل عليه اللطف العظيم و الصبر الجميل، فيكابد غصص تلك الشرور بما هو فيه من اللطف و الصبر، حتى يرد عليه الفرج من الله تعالى، فيكون مثابا دنيا و أخرى.

أما ثواب الدنيا فبحمد العاقبة و ظهور نصره في الخلق على قدر رتبته. و أما ثواب الآخرة فبالفوز بما لا غاية له من ثواب الصابرين الذي وعده الله تعالى. قال سبحانه و تعالى: ”  وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ” (الأعراف 137). و قال سبحانه و تعالى: ” إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ” (البقرة 153)،… إلى أن قال رضي الله عنه : و لعدم اعتبار الناس لما ذكرنا، ترى الناس أبدا في عذاب عظيم من مكابدة شرور بعضهم بعضا، ووقعوا بذلك في المهالك العظام في الدنيا و الآخرة، إلا من حفته عناية عظيمة إلهية.  فإن العامة لا يرون في تحريك الشر عليهم إلا صورة الشخص الذي حركه عليهم لغيبتهم عن الله سبحانه و تعالى، و عن غالب حكمه، فنهضوا في مقابلة الشرور بحولهم و احتيالهم، و صولة سلطان نفوسهم، فطالت عليهم مكابدة الشرور، و حبسوا في سجن العذاب على تعاقب الدهور. فإن الكيس العاقل إذا انصب عليه الشر من الناس، أو تحركوا له به، رآه تجليا إلهيا لا قدرة لأحد على مقاومته إلا بتأييد إلهي، فكان مقتضى ما دله عليه علمه و عقله الرجوع إلى الله بالهرب و الالتجاء إليه، و تتابع التضرع و الابتهال لديه، و الاعتراف بعجزه و ضعفه، فنهض معتصما بالله في مقابلة خلقه. فلا شك أن هذا يدفع عنه الشرور بلا تعب منه، و لو التهبت عليه نيران الشر من الخلق لعجزوا عن الوصول إليه لاعتصامه بالله تعالى. فإن من تعلق بالله لا يقوى له شيء. قال سبحانه و تعالى: ” وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا” (الطلاق 2).

و هذا الباب الذي ذكرناه كل الخلق محتاجون إليه في هذا الوقت. فمن أدام السير على هذا المنهاج سعد في الدنيا و الآخرة، و من فارقه وكله الله إلى نفسه فنهض إلى مقابلة الشرور بحوله و احتياله فهلك كل الهلاك في عاجله و اجله. و فيما ذكرناه كفاية.

  من كتاب مختارات من رسائل الشيخ رضي الله عنه